غرباء أحمد الملك السبعة

غرباء أحمد الملك السبعة

18 أكتوبر 2014
مقطع من لوحة لـ راشد دياب، السودان (1983)
+ الخط -

بالنسبة إلى بلدٍ لم يخرج من عتمة الحروب الأهلية منذ استقلاله وحتى اليوم؛ تبدو قليلة هي الأعمال الأدبية السودانية التي اتكأت على ثيمة الحرب في تجلِّياتها المختلفة؛ الاجتماعية، والنفسية.

أمرٌ ربما يعود إلى "مركزيَّة" الأدب السوداني، التي تبتعد به عن الأطراف المشتعلة بالنزاعات. تضاف إلى ذلك سيادة وجهة النظر الرسمية عن تلك الحروب من ناحية، وطغيان الخطاب الأيديولوجي المضاد لها على الأعمال الأدبية المتوافرة، إلا ما ندر، من ناحية أخرى.

رواية أحمد الملك، "سبعة غرباء في المدينة" (دار أوراق، القاهرة)، التي تتحرك في فضاء الحرب، تتميز بكونها تروي جانباً آخر من النزاع؛ وتُظهر وجهاً مختلفاً للحقيقة؛ لا ينحاز لأيٍّ من الخطابين.

تبدأ الرواية بالصدفة التي ألقت بسبعة غرباء هاربين من موتهم، إلى المدينة الحدودية التي تظلّها الحرب الأهلية، في ليلة هروب أحد الأسرى قبل إعدامه بساعات من عهدة حارسه، الرقيب عبد الحي، الذي أفرط حينها في شرب الخمر. يفكر الرقيب في وضع أحد هؤلاء الغرباء مكان الأسير المفقود، إذ لا تميِّز الحكومة ولا جنود فصيلة الإعدام، في المحصلة، بين مذنب وبريء، كما أن موت أحد الغرباء في ذلك الصقع الحدودي لن يثير ضجة.

وكما قال أحد الأسرى من قبل للرقيب عبد الحي: "إن كنت تريد أن يعرف العالم بموتك، عليك أن تذهب وتموت في العاصمة. لكن حين تموت في الأطراف، يكون ذلك قضاء الله ولا يجادل فيه أحد".

السبعة الذين يقضون ليلتهم في إنداية (خمارة) المدينة، غير عالمين بالموت الذي يتربص بأحدهم في الخارج، متمثلاً في الرقيب عبد الحي؛ ينوء كلٌّ منهم بقصته مع الموت، وهي قصص تتلاقي في كون حيواتهم ضرباً من البحث عن حب ضائع، وفراراً من موت يقتفي خطواتهم، ليجدوا أنفسهم في مدينة يختلط فيها الاثنان بلا انفصام: الحب والموت.

في اثني عشر فصلاً (152 صفحة)، يتوغل الكاتب داخل تفاصيل حياة الغرباء السبعة، وحياة الإنداية، والبلدة، ومعسكر الجيش، ليغطِّي قسماً كبيراً من الأحداث التي تلتقي كلها في نقطة تبعث برسالة مفادها: انهيار النظام، وعبث الموت ومجانيته. هكذا، نجد نعثر بين الغرباء الذين يبحث الموت عنهم؛ على الديكتاتور السابق المنسلخ من بؤس أحلامه باستعادة عرشه، عبر حروبات عبثية، يشنها من حدود دول الجوار.

بحْثُ هذا الرجل عن امرأة عبرت ذات ليلة بفراشه، تاركة في قلبه رائحة أزهار شجرة البونسيانا الاستوائية، سيقوده إلى إنداية "النسيم" تلك الليلة، ليجعله أحد الاحتمالات السبعة للموت، هو الذي ذهب إلى هناك مجذوباً باقتفاء أثر الحياة والحب.

كذلك نقع على سليمان العسكري، حارس الإنداية المثخن بجراح الموت، والهارب من ذاته إلى حياة الحانة ملاذاً من ذاكرته، وهو يجد نفسه مركز حروبات نسوية عليه، بين فتيات الحانة، اللواتي يدفعنه نحو هدم الجدار الذي أقامه عازلاً بين ذاكرته وذاته. اثنان من الطلاب الناجين من الموت في مجزرة معسكر العيلفون للخدمة العسكرية الإلزامية (1998)، التي راح ضحيتها مئات منهم؛ مثلت الإنداية لهما محطة انتظار أحد المشتغلين في التهريب، ليأخذهما بعيداً عن الموت الذي يطاردهما أينما حلَّا.

يتحرّك أحمد الملك نحو التخوم الغربية، إقليم دارفور، مع قصة الصبي آدم، عازف المزمار الخشبي، الذي نجا وحيداً من الإبادة قصفاً بالطيران، فظل يلسعه الحنين إلى قرية لم تعد موجودة إلا في خريطة أحلامه، فارّاً من موت يتربص به في زنازين الأمن، وأسلحة "ميليشيا الجنجويد"، إلى احتمال موتٍ أقرب مما يفر منه.

إلا أن الغريب الأكبر، إن جازت التسمية، يظل الرقيب عبد الحي، حارس وأنيس السجناء المحكومين بالموت صباحاً. إنه ظلّ الحكومة ويدها الباطشة، والمتمرِّد السري في دخيلة نفسه فقط. ورغم إيمانه بضرورة التمرد على الحكومة، إلا أنه يرفض فعل ذلك حين يلوّح به بعض الجنود المتذمرين، بسبب فقدانه الثقة بالسياسيين المعارضين، هو الذي لا يثق بالحكومة كذلك.

الرواية المكتوبة بلغة كثيفة ومحتشدة بالتفاصيل، وتعبق بصور غرائبية وطقوس سحرية محلية، مثل بقية روايات الملك. ترسم في نهايتها لوحة عبثية، مكوَّنة من عشرات الصور والأحداث والمفارقات الطريفة والقاتمة في آن، لتجعل الحرب معادلاً – كما ينبغي لها أن تكون – لهدر الإنسان كقيمة، وكمعنى يوازي الحياة.

في المشهد الأخير، يخرج أحد الغرباء السكارى من الإنداية، ليقع بين براثن الرقيب عبد الحي، الذي يسارع بإيداعه الزنزانة الخالية قبل وصول فرقة الإعدام، التي سحبته نحو مصير ظل يفر منه حتى تلك اللحظة. لكننا لن نعرف، كما لم يعرف الرقيب عبد الحي، أيّ غريبٍ من الغرباء هو مَن يتعالى صوت رصاص إعدامه في ذلك الفجر.

المساهمون