عن مستوانا الحضاري

16 نوفمبر 2016
+ الخط -
نشهدُ في القرن الواحد والعشرين حضارةً جديدةً، ساهمت في تغيير أنماط العيش التقليدية لكلِّ بني البشر على امتدادِ هذا الكون الواسع، هي حضارةُ التكنولوجيا والثورة العلمية وعلوم الفضاء والذرة والبيولوجيا، ولا يستطيعُ أحد أن يتحاشى هذه الحضارة الجبارة، مهما أوتي من قوة، فهي تتوغلُ في حياتِنا بالقوة، وبالأحرى نحن نخضعُ إلى قوتِها وهيمنتِها الجبارة، من دون أيّ مقاومةٍ تُذكر؛ لأنّنا لم نعد نملكُ البدائل التي تجعلنا نستغني عن هذه الكنوز المغرية.
ولنكن واقعيين، ولو مرّة واحدة، ونعترف أنّ الحضارةَ المعاصرة لا تمتُ بأيِّ صلةٍ للحضارة التي كانت قائمةً، وهنا أخصُ بالذكر حضارتنا العربية والإسلامية، ونحن لم نساهم في بنائِها بالقدر الذي ساهم الغرب في عمليةِ نشوئِها وإخراجِها بالحلّةِ التي نراها اليوم، فنحن كنّا ومازلنا ندورُ في دائرةٍ مفرغة، حيث دائرة الانقسامات والصراعات التي توضع في خانةِ المساهمة في "هدم الحضارة" أكثر من خانةِ البناء والوصول إلى الإنجازِ البشري المنشود.
وسواء نظرنا إلى مخرجات الحضارة المعاصرة على أنّها دعت إلى الانحلال والتفسخ الاجتماعي، وإلى الأخلاق السيئة والشذوذ عن العادات والتقاليد المتوارثة، إلا أنّ الواقع يقول إنّ العالم يتقدّم ويتطوّر بوتيرةٍ يصعب السيطرة عليها، في حين أنّ مقولة في مكانك سرّ تنطبق علينا تماماً، فإذا لم يعجب بعضنا ما أنجزته الحضارة المعاصرة من تقدمٍ وتطورٍ ورفاهيةٍ قلّ نظيرها في التاريخ البشري، فماذا قدمنا نحن للبشرية؟
نحن نواجه تحديات حضارية جديدة، برزت أكثر في العقود القليلة الماضية، والهوة تزداد يوماً بعد يوم، بين ما نعيشه اليوم من تراجعٍ مخيف، وما تنتجه الحضارة المعاصرة من علمٍ وتقنيةٍ، أصبحنا لا نستغني عنها ولو برهةً من الزمن، ما يفرضُ علينا مواجهة هذه التحديات بفكرٍ متجدّدٍ وأساليب جديدة، حتى نتمكّن من مواكبة هذه الحضارة، والسير في طريق التقدّم والإبداع والإسهام في مسيرة التطور الحضاري.
وليس مستغرباً أن نصلَ إلى هذا المستوى الحضاري الهابط، فعندما همشنّا الإنسان المبدع الذي يُعتبر المادة الخام التي لا تقوم الحضارة ولا تزدهر أو تتقدّم بدونها، يجب أن لا نقفَ حائرين إزاء التراجع الذي نشهده، بل الأوْلى أن نعترفَ في الأخطاء التي ارتكبناها في حق المبدعين والمبتكرين الذين لم نوّفر لهم البيئة التي تحتضنهم، ونستفيد مما يملكونه من أدواتٍ تصبّ في مصلحة سعينا نحو بناء حضارةٍ عربيةٍ إسلاميةٍ، على غرار حضارة الغرب الشامخة التي فرضت هيمنتها على العالم بكلِّ جدارة واستحقاق.
وثمة نماذج عربية تُثير الشفقة، تعتقد، للهولة الأولى، أنّه بسياسة بناء الأبراج الشاهقة، والجسور العملاقة، والشوارع الواسعة، والحدائق الخلابة، واستيراد أحدث ما وصلت إليه التكنولوجيا من تقدّمٍ وتطوّرٍ، ستبني حضارة تنافس الغرب وحضارتهم المتقدّمة، والسؤال هنا: كيف يحدث ذلك، وابتداءً من كلِّ مسمارٍ دق وصاعداً ناهيك عن العقول المبتكرة والمخطّطة لتلك المشاريع، موسومٌ عليها أنها نتاج حضارة غربية خالصة؟
هناك عدّة عوامل لنشوء أيّ حضارة وتطورها، سواء من الناحية الاجتماعية أو الاقتصادية أو الطبيعية - البيئية أو السياسية أو الثقافية أو اللغوية، وعبر التاريخ تتفاوت هذه العوامل من حضارةٍ إلى أخرى. ولكن، بالمجمل نستطيع القول إنّ الحضارة استفادت من كلِّ تلك العوامل، ما انعكس إيجاباً على عملية تقدّمها وتطوّرها.
وعلى الرغم من أنّنا، عرباً ومسلمين، ولدنا في مجتمعاتٍ قريبة من بعضها، ونمتلك الموارد الاقتصادية نفسها، ونعيش ببيئةٍ متشابهة، ونحملُ ثقافةً وديانةً ولغةً واحدة، إن صحَ التعبير، لكننا لم نستطع أن نبني حضارةً تجاري ما وصلت إليه الحضارة الغربية، على الرغم من الاختلافات الكبيرة التي تحدّ بينهم.
ليس هناك تفسيرٌ منطقيٌّ أكثر من أنهم (أي الغرب) قدّروا مبدعيهم، وكلّ مبدعي العالم، يهوداً كانوا أو مسيحيين أو مسلمين، وسواء كانوا ذوي بشرة سوداء أو بيضاء، كلّ هذا لم يمنعهم من عملية احتضانهم ورعايتهم، وتقديم كلّ ما يحتاجونه، في سبيل الاستفادة منهم في بناء حضارتهم العصرية، في حين أنّنا همّشنا وهجّرنا وحاربنا وكفّرنا وقتلنا كلّ من أراد خيراً لهذه الحضارة المحتضّرة، وما نزال نتغنّى في عصر أسلافنا الذين هم أنفسهم ذاقوا الويلات من المتزمتين وأصحاب الفكر الهدّام!
5ADE5A47-E143-4BFB-9A04-F3543E66FC8B
5ADE5A47-E143-4BFB-9A04-F3543E66FC8B
بشير الكبيسي (العراق)
بشير الكبيسي (العراق)