عن خطر تحوّل مفهوم العلمانية في فرنسا

عن خطر تحوّل مفهوم العلمانية في فرنسا

16 فبراير 2015

تظاهرة يسارية ضد الفاشية والتعصب الديني في فرنسا (7يونيو/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

من أهم الحوارات الثقافية الدائرة، اليوم، في أوساط الفلاسفة في فرنسا، الحوار حول تحديد المعاني المختلفة لمفهوم العلمانية، حيث يقول الفيلسوف هنري بينا رويز، مؤلف "قاموس محبي العلمانية"، إن العلمانية يجب أن تلتزم بثلاثة مبادئ في آن واحد: حرية المعتقد، المساواة في الحقوق بين المؤمنين والملحدين، وتكريس جهود الدولة للعمل من أجل المصلحة العامة. ما يعني أن الفكر العلماني فكر كوني، يصب في مصلحة الجميع، ويوحد من دون إكراه، ويحمي الفضاء العام من التعصب الفئوي. وبالتالي، فإن على المواطن العلمانيَ أن يرفض امتيازات فئة ما، سواءَ كانت تلك الفئة ملحدة، أو متدينة، بهدف تطبيق المساواة بين الجميع. ويستند هذا الفيلسوف في تفسيره على قانون الفصل بين الدين والدولة الذي تم إقراره في عام 1905، في عهد الجمهورية الفرنسية الثالثة، حيث تنازلت الدولة عن مبدأ التدخل في الشؤون الدينية، وتخلت الكنيسة من طرفها عن التدخل في الشؤون السياسية.

وفي معرض ما جاء في مقالة للصحفية الفرنسية، جولييت سير، عن الحوار الدائر، وخصوصاً بعد أحداث "شارلي إيبدو" في فرنسا، تمت الإشارة إلى رأي المؤرخ وعالم الاجتماع، جان بوبرو، وهو مؤلف لكتاب جديد حول الأشكال المتعددة للعلمانية في فرنسا، والذي يرى أن العلمانية خضعت، منذ بداية نشأتها، لتفسيرات متعددة، حيث شاهدت، منذ عام 1905، اختلافاَ في وجهات النظر بين المفكرين الأصليين، أي بين جان جوريس وآرستيد بريان من جهة، وإميل كومب من جهة أخرى، وبالتالي، يستنتج بوبرو "أنه لا يوجد بالأساس نموذج فرنسي موحد لمفهوم العلمانية".

وحسب بوبرو، فإن التشويش الحالي في المفهوم ناتج عن تركيب نوع جديد من العلمانية، على العلمانية الأصلية، حيث يتفاعل تفسيران متناقضان للعلمانية في آن واحد: علمانية أولى، تعمل بشكل صامت وخفي، وتتمثل في الفقه القانوني المستمد من قانون عام 1905، ويسمح للجميع بممارسة تعاليمه الدينية بسلام وهدوء، وعلمانية ثانية ناشئة، تعمل بضجيج، ما يؤدي، اليوم، إلى نشوب خلاف حاد في المجتمع، فهي علمانية تختلف، في جوهرها، عن علمانية عام 1905، فبينما كانت تلك تطالب فقط السلطات العامة بالحياد، أصبحت العلمانية الجديدة تطالب المجتمع ككل بالحياد. وبشكل تدريجي، أصبح مطلب الحياد موجهاً للأفراد. وقد تم التعبير عن هذا التوجه في القانون الصادر في عام 2004، والذي حرم ارتداء رموز التدين في المدارس والمعاهد، وتلاه قانون تحريم النقاب في الأماكن العامة في عام 2010. ويرى المؤرخ أن الظرف الاجتماعي والسياسي في فرنسا، اليوم، مختلف عمّا كان عليه في عام 1905، حيث كانت عملية التوصل إلى قانون العلمانية نتاجاً لصراع طويل الأمد وحاد، ضد الكنيسة الكاثوليكية، يعبر عن استمرار لتطبيق مفاهيم الثورة الفرنسية التي ناضلت ضد الملكية والحق الإلهي. أما العلمانية الحديثة
فقد بدأت تتحول، أخيراً، إلى مواجهة مع "الإسلام"، من دون تحديد الفرق بين الإسلام كدين من حق الناس أن تدين به، والممارسات المتطرفة لبعض الجماعات الأصولية.

ويوضح جان بوبرو أنه تم تشويه العلمانية التي كانت تشكل الأساس التاريخي لمشروع اليسار السياسي، بعد أن احتواها اليمين، لكي تصبح أحد مكونات الهوية المستحدثة، والذي عبر عنها رئيس فرنسا السابق، نيكولا ساركوزي، في خطاب له عام 2007، حيث تحدث عن "الجذور المسيحية" لفرنسا، آملاً أن تتطور العلمانية إلى "علمانية إيجابية"، يعتبر الدين فيها "مكسبا" إضافيا. وقد عارض مؤيدو العلمانية الأصلية هذه الأفكار، معتبرين أنها بمثابة عودة إلى الخلف، وتحويل للعلمانية الأصلية إلى نوع من "العلمانية الكاثوليكية" التي قد تؤدي إلى تهميش الإسلام في فرنسا. وفي رأيهم أن العلمانية الجديدة بدأت تتحول لدى اليمين الفرنسي إلى أداة لحماية ثقافة وحضارة، كأنها منبثقة، أصلاً، عن "المسيحية" في مواجهة "الإسلام"، وكأنها متطابقة تماماَ مع الديانة المسيحية، وولدت من رحمها ونتاج لها، على الرغم من الحقيقة التاريخية التي تشير إلى عكس ذلك، وعلى أنها ولدت عبر الصراع مع الكنيسة، ما أدى بعالم الاجتماع الفرنسي، إيريك فاسان، إلى القول إنه يمكن، اليوم، مشاهدة استخدام عنصري للعلمانية، مبني على العزل وكراهية الآخر.

ويرى المفكرون الذين ينتقدون موجة العلمانية الحديثة أن ما يدعو إلى السخرية، حقاً، أن تؤدي العلمانية التي كانت تعمل لحمة وعاملا موحدا للمجتمع، تسمح بتخطي الخلافات بين فئاته المختلفة والمتنوعة، اليوم، إلى عزل فئة من المواطنين وتهميشها، وإلى التمييز بين الأديان، ما أدى إلى تفكك المجتمع الفرنسي، وإلى تبخر معاني العلمانية الأصلية، لأنها بدلت أسس القانون، وباتت تخلط بين العام والخاص، عبر تحويل مبدأ الحياد من السلطة العمومية إلى الأفراد، ما يعني الانتقال من علمانية مبنية على القانون إلى علمانية اجتماعية، تريد "تخصيص الشأن العام وتعميم الشأن الخاص"، حيث تسمح للدولة بالتدخل في الخيارات الدينية الخاصة بالمواطنين الذين أصبحوا مطالبين بأن يكونوا "علمانيين"، ما حوّل الدين، مرة أخرى، وبأسلوب ملتو، شأناً عاماً، على حساب الحريات الفردية، ما يهدد جوهر العلمانية الأصلية بفرض قيم أخلاقية حول ما هو صحيح وما هو باطل. وبالتالي "حصار الدين باسم ما كان يجب أن يحمي حريته"، وهذا يعني الخلط بين "المبدأ القانوني" الليبرالي في الأساس، والذي يسمح للجميع بالعيش والتعبير عن انتمائه الديني في الفضاء العام من جهة، والعرف الاجتماعي من جهة أخرى، والذي يرى "أن المواطن الجيد لا يجب أن يعلن انتماءه الديني، ما قد يؤدي إلى التشكيك في انتمائه إلى قيم الجمهورية، لأن التعبير عن الديانة قد يعني الابتعاد عن المواطنة". ويرى الفلاسفة أن التصور المثالي "للجمهورية" ذات القيم الكونية قد اصطدم بواقع مغاير، يتسم بعنصرية جغرافية اجتماعية وإثنية، ويشير إلى أن فرنسا تحولت، منذ فترة، من الأمة النموذجية التي تدعي أنها موحدة، إلى عكسها، فهي منقسمة بسبب عدة توترات اجتماعية ودينية. كما يحذرون من خطر تحول العلمانية إلى أداة تستخدم للحد من الحريات عبر الخلط بين الإرهاب والمواطن المسلم العادي، ويطالبون بالنضال، لكي تستمر العلمانية في التناسق مع الحرية، من دون أن تصبح "حاجزاً" أمام الديانات، أو "قلعة" من العهد الماضي، محاصرة من الحاضر، أو قناعاً لملء الفراغ الفكري، وإخفاء الشعور بالخوف. ويدعو هنري بينا- كروز إلى عدم التشكيك في إمكانية التطور الإيجابي للعلمانية الأصلية، بحجة مأزق التطور الاقتصادي والاجتماعي، لأنها ليست المسؤولة عن تهميش المواطنين المسلمين، بل إن النضال ضد العنصرية، ومن أجل تطبيق مبدأ العدالة الاجتماعية للجميع، هو الأسلوب الذي يمكن أن يتغلب على عملية التهميش.

وفي رأينا أن هذا التشوه الحديث الذي أصاب الفكر العلماني في فرنسا شبيه بالتطورات الخطيرة في بعض المجتمعات العربية، حيث أصبح "للمجتمع" حق التدخل في الشأن الخاص، عبر مفاهيم غوغائية، مثل مفهوم "المواطن الشريف"، وعبر انتقال الدين، تدريجياً، من الشأن الخاص للأفراد، أو من العقيدة الخاصة لطائفة معينة، إلى عقائد سياسية شمولية، تهيمن على المجتمعات، وتؤدي إلى أسوأ الصراعات وأكثرها دموية.

5986FB8F-EB9E-42A9-AF55-A300C688F0AC
نهى خلف

مؤرخة، دكتوراة من المعهد الوطني للغات والحضارات الشرقية في باريس (إينالكو). باحثة في الشؤون الاستراتيجيةـ عملت في مراكز أبحاث، ونشرت دراسات ومقالات عديدة باللغات العربية والانجليزية والفرنسية.