عن ترامب و"الاستثنائية الأميركية"

عن ترامب و"الاستثنائية الأميركية"

15 فبراير 2017
+ الخط -
عندما أبلغ القيادي الأميركي، جاي لوفستون، رفيقه جوزف ستالين عام 1929 أن بروليتاريا بلاده غير مهتمة بثورة اشتراكية، طلب منه ستالين "إنهاء هرطقة الاستثنائية الأميركية". كان غضب ستالين نتيجة ما اعتبره تحدّي الولايات المتحدة قانون الجاذبية الماركسي، بحيث لم تخرج منها اشتراكية على أنقاض الرأسمالية. قبل ذلك عام 1840، كتب المفكر الفرنسي، ألكسيس دي توكفيل، عن فرادة هذه التجربة "الاستثنائية"، من مهارات تجارية ونظرة براغماتية، مع انتقادٍ مبطن لانعدام الحشرية الفكرية عند الأميركيين.
لكن، مع مرور الوقت، راكمت النخب الأميركية أبعاد تبرير هذه الاستثنائية ومعانيه، من ثورة بدأت نذرها عام 1765 ضد الملكية البريطانية، مرورا بمبادئ الفردية والسوق الحرة، وصولا إلى اجتراح مهمة ذاتية سامية لإنقاذ العالم. كما اكتسبت هذه الاستثنائية شعورا تلقائيا بالفوقية. كان رونالد ريغان يصف الولايات المتحدة بأنها "المدينة الساطعة على التل"، في عبارة عزيزة على قلب المحافظين، فيها خليط من الإنجيل وتراث الاستعمار البريطاني. عند النخب المحافظة، كانت هذه الاستثنائية تعقلن مبرّرات الغزو لهزيمة عدوّ ما وراء البحار وإعادة اختراع الأمم بعد احتلالها، كما حصل مع العراق عام 2003. بالنسبة إلى الليبراليين، الفوقية تعني أن أميركا منارة لتحقيق أمنيات المهاجرين إليها، وقدوة في الريادة الدولية والتعاطف مع المستضعفين.
على عكس أسلافه، حمل دونالد ترامب صورة قاتمة عن الولايات المتحدة. خلال خطاب التنصيب، وصف ما يجري في بلاده من اضطراباتٍ بأنها "مذبحة". لم يعد الحل السحري في عصر الرئيس الجديد وحدة الأميركيين، وأملهم بغد أفضل، اختصر ترامب مفهوم الاستثنائية بعقيدة الفوز على الآخر، وإبعاده خارج الحدود، ما يعني أن الفوقية أصبحت أكثر أنانية ترفض مشاركة ثرواتها المحدودة مع المتطفلين. كأن أميركا ترامب تعبت من العالم القديم الذي لا يأتي منه سوى المتاعب والإرهاب.
لا بد من التنويه أن رد المجتمع الأميركي على غزو العراق والركود الاقتصادي، أي إرث
جورج بوش الابن، لم يكن تلقائيا بالانعزال ولوم الآخر. كان الرد الشعبي بإيصال سيناتور شاب أصبح أول إفريقي أميركي يحكم البلاد ولايتين، بمشروعٍ يلامس الاشتراكية عبر تدخل الحكومة الفيدرالية بشكل مباشر ومكثف، لإنقاذ الاقتصاد المتعثر. ليس واضحا بعد ما إذا كان انتخاب ترامب يعني تجميداً مؤقتاً لمفاعيل "الاستثنائية الأميركية"، أم هناك محاولة جدية لتعديل مفاهيمها بإضعاف المؤسسات الأميركية، وتغيير أسس النظام العالمي.
لكن، من دون شك، تصارع هذه الاستثنائية لبقائها الآن. تظاهرات ودعاوى قضائية وانقسامات أيديولوجية كلها تُنذر كأننا في أمّة مضطربة تعاني من عوارض توتاليتارية. الرئيس يهاجم القضاء والإعلام، كما معارضيه وشعبه، يجمع في فكره وجيبه بين العام والخاص، يفتعل أزمةً خارجيةً تغطي على أزماته الداخلية، فيما مستشاره يعدّ سرا مراسيم جوّالة جديدة. هذا الصراع الأيديولوجي الذي أداره باراك أوباما برباطة جأش، أصبح مفتوحا بدون قفازات. غاية ترامب الرئيسية هي إزالة ما يعتبره رواسب الاشتراكية التي زرعها أوباما من ضرائب وضوابط اقتصادية ورعاية صحية. غير أن هذا الإجهاز "الترامبي" على الاستثنائية يشمل شقها الداخلي فقط، أي حماية أميركا من الآثار الجانبية للعولمة، ويستثني طبيعة دور واشنطن في العالم. أي أن منع الآخر من مشاركة منافع "الاستثنائية الأميركية" لا يعفي واشنطن من ضرورات التدخل في شؤون الآخرين. على سبيل المثال، يمكن قصف اليمن وليبيا والصومال بطائراتٍ بدون طيار، يديرها شاب أميركي في صحراء نائية في غرب الولايات المتحدة. لكن، لا يمكن لشاب أو فتاة يمنية وليبية وصومالية المجيء إلى الولايات المتحدة للدراسة. ترامب الذي بدأ يتماهى تدريجيا مع المؤسسة الحاكمة في قضايا السياسة الخارجية يسعى إلى أن تبقى واشنطن مركز القرار العالمي. لكن، من دون قيود أو شروط، ومع ثمن في المقابل، بدل أسلوب سلفه بالقيادة من الخلف والارتباط بتعقيدات التعاون الدولي.
أدمن العالم أيضا لفترة طويلة لعبة "الاستثنائية الأميركية". أميركا مخطئة إذا غزت العراق أو
في حال لم تتدخل في سورية، إذا لم تحارب إيران نيابة عنا أو في حال لم تُسقط معمر القذافي معنا. أميركا يجب أن تمدّنا بالمال والسلاح، ولا تسأل عن حقوق الإنسان والإصلاحات، أو أي تفاهة أخرى. أميركا ندرس فيها ونلجأ إليها، ونضغط عليها، لكن نظامها يتحمل مسؤولية كل ما يحصل على الكوكب الأرضي.
في أميركا التي أعرفها، هناك الآن قضاة يتحدّون شرعية قراراتٍ تنفيذية غير دستورية، وانتخابات جلبت رئيسا لا يمكن التكهن بأفعاله، لكن موعد رحيله مؤكد إذا انتهك صلاحياته. في أميركا يتظاهر الناس في المطارات ضد قرار منع دخول المهاجرين، كما يعتذر مسؤول هجرة بتواضع أمام لاجئ سوري، لأن عليه الانتظار ساعات قبل السماح له بالعودة إلى منزله المؤقت. قد يكلّف سقوط مشروع ترامب معارك داخلية وحتى خارجية، كما حصل مع المحافظين الجدد، في حال اعتبر الرئيس الجديد أن التفويض الجزئي الذي ناله يسمح له بالتهوّر. إذا كان هناك من "استثنائيةٍ أميركية"، فهي تتجسّد بهذا النظام الذي يبقى بكل محاسنه ومساوئه أقوى من الأفراد والأفكار، مهما علا شأنهم.
تساءل فرانسيس فوكوياما عن "نهاية التاريخ"، وعن ماهية نظام الحكم النهائي الذي ستعتمده البشرية، بعد سقوط الشيوعية وأفول الديمقراطية الليبرالية. لا شك أن هناك أزمة حكم في الأنظمة الليبرالية الغربية، وصعود اليمين المتشدد ليس سوى تعبير عن مكامن ضعف في المؤسسات الوطنية والدولية التي ترتكز عليها. السؤال الأهم هو إذا ما سيتم استغلال فرصة التأزم هذه لإصلاح شوائب هذه الأنظمة، وفتح ثغرة في جدار إنتاج سلطتها وتوزيع ثرواتها وعدالة حكمها.
828E0773-6249-4AB6-B25A-1202D620094A
828E0773-6249-4AB6-B25A-1202D620094A
جو معكرون

كاتب وصحافي لبناني مقيم في واشنطن

جو معكرون