عن الخطاب الإسلامي

29 يناير 2017
+ الخط -
يصطدم الخطاب الإسلامي المعاصر بعقباتٍ كثيرة، حالت دون اتخاذه منهجاً عاماً للحكم، على الرغم من أنّ منطقتنا كانت منبعاً لبزوغ الدين الإسلامي وانتشاره في كلِّ بقاع الأرض.
إلا أنّها اتجهت نحو تبني مبادئ "الدولة الحديثة" الغربية المنبع والأصول وقيمها، وتتبنى، في الوقتِ نفسه، بند "الإسلام" هو دين الدولة. ولكن هذا يقتصر على أمور متعلّقة بالأحوال الشخصية والزواج والميراث.
ولعلّ من أبرز تلك العقبات وضوحاً مسألة "التجديد"، فقد عكف علماء وفقهاء ومفكرون مسلمون كثيرون، مُنذْ وفاة الرسول الكريم، عن التطرق إلى مسألة الاجتهاد والتجديد الفعليين، خشية الوقوع بمخالفة "السلف الصالح"، والكذب على الرسول وصحابته، بالإضافة إلى سببٍ آخر يمنعهم من ذلك التجديد المنشود، وهو التغنّي بالـ "ماضي" وتعلّقهم به، اعتقاداً منهم أنّه السبيل الوحيد لاستعادة مجد الأمة وألقها!
هناك خطابان في القرآن الكريم والسنة النبوية، الأول يؤكد على إحاطتهما بأمور الدنيا والآخرة، ويحذر تحذيراً شديد اللهجة من عملية التلاعب بهما، أما الخطاب الثاني فيدعو إلى ضرورة الاجتهاد والتجديد وعدم الجمود. وفيما يتعلق بالأول، يقول الله في محكم كتابه: "مَّا فَرَطْنَا في الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ" (الأنعام، 38)، وآيةٌ أخرى: "وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ" (النحل، 89)، جنباً إلى جنب الحديث النبوي القائل: "من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار". وفي الخطاب الثاني الذي يُشدّد على الاجتهاد والتجديد، الحديث الذي روي عن النبي محمد: "إنّ الله يبعثُ لهذهِ الأمة على رأس كُلِّ مائة سنة مَنْ يجدّد لها دينها"، إضافةً إلى مواقف عديدة في سيرة نبينا محمد، تدل بشكلِّ لا يقبل الشك على ضرورة التجديد، علماً أنّ الأنبياء قبله جدّدوا واجتهدوا في أكثر من قضية وموقف، كقضاء سليمان في الحرث.
وثمّة قاعدة معروفة عند المشرعين، وهي شريطة تحقيق "المصلحة العامة" من جرّاء الاجتهاد، إذا لم يكن هناك أيّ مانعٍ في الاجتهاد والتجديد، بدليل من المصدرين التشريعيين الرئيسيين، الكتاب والسنة، وهذان المطلبان يحقّقان مصلحةً عامة للأمتين، العربية والإسلامية، وهي بأمسّ الحاجة لذلك التجديد الذي سينقلها من ركب الأمم المتخلفة إلى مضمار الأمم المشاركة في عملية الإنجاز الحضاري الإنساني، فلماذا يا ترى هذا الجمود؟
مسألة التجديد حتمية، لا يمكن تفاديها شئنا أم أبينا، وهذا ديدن الحياة. ولكن كلَّ الغرابة تكمن في بعض العلماء المسلمين الذين يتبنون الرأي القائل: "إنّ التجديد الديني بدعة من بدع "الزنادقة!"، فالإسلام خاتم الرسالات، وهو صالحٌ لكلِّ زمانٍ ومكان، وتكفل الله بحفظه"، ويبدو أنّ من يتبنى هذا الخطاب غير مطلعٍ على التاريخ، ففي كلِّ عصرٍ كان هناك فرقةٌ من العلماء يقودون شعلة التجديد، وآخر تلك التجليات ما عُرف باليقظة العربية، مع بداية القرن التاسع عشر، وعلى الرغم من فشلها وسقوطها في فخ "التقليد" و"التكفير" على يد "الملّة" نفسها المذكورة أعلاه، إلا أنّها تؤكد أنّ التجديد ضرورة تقتضيها الحياة البشرية.
لا أُريدُ أن يُفهمَ من كلامي هذا، أنّ التجديد يعني التبديل والتغيير، فشتان بين المصطلحين، فالتجديد يعني التطوير، بالحذف أو بالإضافة أو بكليهما معاً، ولكنه يعتمد على الأصل، أما التبديل أو التغيير فيعنيان محوّ الأصل، وهذا لا يجوز، لأنّ ثمّة أحكام في الإسلام لا يمكن المساس بها، وهي حقاً صالحة لكلِّ زمان ومكان.
ومَنْ يقول إنّ التجديد لم يغب عن فضائنا العام، أقول له إنّني لا أقصد بالتجديد ما يحدثُ على بعض الفضائيات من أسئلةً تستفسر عن "مفطرات شهر رمضان" و"أحكام الحج" و"قواعد الوضوء" و"الجنابة" و"الطلاق" و"الخلوة"و"الإختلاط في الجامعات!" و"الحلال والحرام" و"إمكانية تهنئة وتعزية المسيحي في فرحه أو حزنه!"... وإنما أقصد التجديد الذي يستعيد وينتشل هويتنا وحضارتنا وإنتاجنا البشري من براثن الإنحطاط والتخلف.
يحيل الوضع المأساوي الذي نمرّ به إلى اتجاهين لا ثالث لهما: إما تجديدٌ منهجيٌّ حقيقيٌّ يلمس جوهر الخطاب الإسلامي، أو دولةٌ علمانيّةٌ تحمي الدين من تزمت بعض المستفيدين، وتفصل بين ما هو مشترك للجميع وما يتعلّق بالحرية الفردية.
5ADE5A47-E143-4BFB-9A04-F3543E66FC8B
5ADE5A47-E143-4BFB-9A04-F3543E66FC8B
بشير الكبيسي (العراق)
بشير الكبيسي (العراق)