عبّاس بن فرناس أم زياد الجراح؟

عبّاس بن فرناس أم زياد الجراح؟

12 سبتمبر 2014

تمثال عباس بن فرناس في بغداد وبورتريه لزياد الجراح

+ الخط -

لا تطير الطائرة إذا لم يكن لها ذيل. غاب هذا عن عباس بن فرناس، لمّا ألصق على بدنه ريشاً، ومدَّ على يديه جناحين من وزنٍ وتقديرٍ معلومين، ثم وقفَ على ربوةٍ في قرطبة، واندفع في الهواء طائراً، حلق قليلاً، ثم وقع (لم يمت، كما يُقال في دروس الابتدائية). كان، في صنيعه ذاك، يمتحن قدرة العقل البشري على اجتراح مستحيلٍ بعيدٍ في زمانه، قبل أزيد من ألف ومئة وستين عاماً. وفي سيرته أنه كان شاعراً وموسيقياً وفيلسوفاً، ومهجوساً، في الوقت نفسه، بأن يخترع جديداً. وإلى الزندقة والكفر، حوكم على "إتيانه خوارق الشيطان"، غير أن المحاكمة برأته.
يأتي أبو القاسم عباس بن فرناس، من زمنه القرطبي إلى هذه الصفحة الأخيرة، بمناسبة ذكرى ضرب البرجين في نيويورك بطائرتين، على متنهما ركابٌ لم يأت إلى خاطر أحد منهم أن الطائرة، باعتبارها منجزاً مدهشاً في كشوفات العلم لخدمة البشرية في اجتياز المفازات والمسافات وعبورها الأمصار والأقطار، يمكن استخدامها في القتل والتدمير و"غزو" أميركا. كان ابن فرناس يستأنف ما بادر إليه سلفه اليوناني، أوكاريوس، والذي تقول أسطورته إنه ووالده كانا محبوسَيْن في قلعة، ثم صنعا لنفسيهما جناحَيْن من ريش، وحاولا الطيران، ولم يفلحا. ولا شطط في الزّعم، هنا، أن ما فعله الاثنان، صاحبنا الأندلسي العتيق وسلفه اليوناني القديم، تأسس عليه جهد الأميركييْن، الأخوين أورنيل وويلبور رايت، واللذيْن قاما، قبل 111 عاماً، بأول تجربة طيران ناجحة استمرت 75 دقيقة.
بديعٌ أن تقرأ عن هؤلاء الأربعة، ومحزنٌ أن تقرأ عن أربعةٍ آخرين، كانوا ضمن الشبان المسلمين العرب، التسعة عشر، الذين ضربوا بأربع طائرات (ثلاث، والرابعة أخفقت) أميركا. تلملموا على بعضهم في هامبورغ، وكان فيلماً جيداً عنهم، ذلك الذي أنجزته مخرجة بريطانية وكتبه سيناريست إيرلندي. شاهده كاتب هذه السطور في عرضه العربي الأول في مهرجان دبي السينمائي، قبل عشرة أعوام. المثير فيه، واسمه "خلية هامبورغ"، وفي حدوتة "11 سبتمبر" كلها، ذلك الشاب اللبناني، زياد الجرّاح. وكان أحد أولئك الأربعة في المدينة الألمانية. مشاركته في ذلك العمل الإرهابي (الفريد) محيّرة، وما نشره صديقُه زميلنا، زياد توبة، في "العربي الجديد" عنه، أمس، يعزّز هذه الحيرة، ويصعّدها إلى مرتبة الأحجية العويصة.
شاب مجتهد، محبٌّ للحياة والبهجة، يُساكن صديقته التركية، يشرب البيرة، يدرس طب الأسنان، ثم تغويه الغرابة والإثارة العجيبة في عيش الجهاديين القاعديين من أتباع أسامة بن لادن في أفغانستان، لا تأخذه الغواية إلى درسهم، بل إلى تديّنٍ طفيفٍ أولاً، ثم ما إن يفاتحه أحدهم بفكرة الذهاب إلى أفغانستان للالتحاق بـ "إخوته" الجهاديين، يوافق، ويفعلها. انتقل من دراسة طب الأسنان إلى تعلم ميكانيك الطيران، وهيأ نفسه لمغادرة ألمانيا إلى أميركا. ويحتاج المرء إلى معرفةٍ مكينة بعلم النفس والسوسيولوجيا للوقوع على تفسيرٍ ما لحالة الجراح هذه، والتي تذكّر بأن شباناً من عائلاتٍ ثرية، وعلى سويةٍ طيبة من التعليم العالي، التحقوا، من المغرب والسعودية مثلا، بمجموعاتٍ إرهابية، وشاركوا في تفجيراتٍ قضى فيها مدنيون عديدون في غير بلد.
تُرى، هل كان عباس بن فرناس يحضر إلى ذهن زياد الجراح، وهو يتعلم ميكانيكا الطائرات؟ أم أنه انصرف إلى هذا الأمر، وفي باله أنْ يصنع فعلاً مدويّاً، بالغ الإثارة والإدهاش؟ كان في وسعه هذا، لو أخذ عقله إلى ممكناتِ الطيران نفسها، بالعلم وتطوير التقنية ولوازم هذا الاختصاص. لا أشغل نفسي بمحاولة فهم أسباب ما أَقدم عليه، بل بالبديعِ الذي كان في دماغ عباس بن فرناس. لو طرأت فكرة الذيل على باله، لركب البشر الطائرات في زمنٍ أبكر، وربما ما كانت خلية هامبورغ، ولا كانت "11 سبتمبر"، ربما.

 

 

358705DE-EDC9-4CED-A9C8-050C13BD6EE1
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.