صرخة روح

صرخة روح

15 فبراير 2015
+ الخط -

الأزمة الأخلاقية التي نعيشها في المجتمع السوري حقيقة لا يمكن أن نغض الطرف عنها، أو أن نبالغ في توصيفها، إلى درجةٍ يشعر بفقدان الأمل. لكننا، في زمن الثورات والثورات المضادة، نحتاج إلى إعادة ترتيب الأوراق الداخلية، تزامناً مع التغيير السياسي الذي نصبو إليه، إذ لا يمكن أن نعقد الأمل على التغييرات الجزئية التي لم تكتمل، وإلا فإننا، في نهاية المطاف، لن نحصل على شيء، والخلاصة تكون "كمَن خرج بخفي حنين". "صرخة روح"، مسلسل درامي سوري عرض في رمضان 2013، على الرغم من أنه يحمل صورة لكارثة يعيشها المجتمع السوري، إلا أنه، في الوقت نفسه، قدم الصورة بأسلوبٍ جريء، ويتنافي مع أخلاق المجتمع المسلم، ما يثير تساؤلات وعلامات تعجب من السماح بمثل هذا العرض في وقتٍ تعيش فيه سورية أزمة إنسانية أكبر بكثير.
على العموم، يبقى ما سبق رأياً شخصياً، لكنه يبقينا في محور الحديث، ففي بلدٍ تنتهك فيه الأعراض، على يد من يسمون "حماة الديار"، ومطالعة لتاريخ النظام السوري تؤكد أن حياة السوريين في جزرٍ منعزلة، كان نتاجاً منطقياً لمنهجيةٍ اتبعها النظام السوري ذو البنية المخابراتية، وقد أوجدت هذه المنهجية شرخاً بين أبناء المجتمع، فالكل هنا متخوفٌ من أخيه وجاره، بل وحتى الحائط في منزله.
سلسلة القوانين والبيروقراطية وتفشي الرشى في الدوائر الحكومية، وخصوصاً القضائية، شكّل بدوره عامل "إلهاءٍ" للناس، وتشكيكهم في أهمية التغيير أو حتى جدواه.
وبينما تعمّدت حكومة الأسد عدم احترام الحريات السياسية والفكرية، والاجتماعية، ناهيكم عن الدينية، فمع غياب هيئات المجتمع المدني، وتحوّل "الدين" إلى عباءة تخفي تحتها رغبات ضيقة وصولية، تملي إرادة الحاكم على الشعب، وتصبغها بالطابع الشرعي.
يعاني التعليم بدوره فاقة كبيرة، فهو الإناء الذي يمجّد شخص النظام، بحيث تبدأ العملية التربوية بغرس حب القائد الملهم، ما يوحي أن الدولة هي نفسها القائد، والعكس صحيح، وتتعمّق هذه الصورة بفرض المبادئ القومية التي هي، أساساً وواقعياً، بعيدة، إلا عن منطق القائد الأسد ونهجه.
نحن، هنا، أمام مؤسسات دينية وتعليمية، سخرت نفسها لتلميع النظام، وغض الطرف عن المجتمع، بل وتجاوزت مشكلاته، وابتعدت عن الشارع.

المؤسسة الإعلامية، أو ما تعرف بـ"وزارة الإعلام"، شاركت بجريمة تفتيت المجتمع، وتضييعه عبر تسخيرها كتّاباً شوهوا التاريخ، وجيّروه لخدمة النظام، فكانت آراؤهم وتحليلاتهم مجرد تضليلٍ وزرعٍ للأوهام، ووأد الأحلام، مع التركيز، دائماً، على التجارة بالقضية الفلسطينية، ولعلّنا نتذكر المسلسل "الموت القادم إلى الشرق"، وما يوحي من إشارات على أن العدو الوحيد للشعب هم "الصهاينة"، وهي كلمة حق يراد بها باطل.
لا ينسى الإعلام أن يتحدث عن اللحمة الوطنية بين أبناء الشعب السوري، بينما يدرك من يعيش داخل المجتمع السوري وجود تنافر، وأننا على صفيحٍ بركاني، والغالب بين "السنّة" و"العلويين"، لارتباط الأخير ليس بالنظام بطائفة بعينها، بل لتمثيله الكيان الأمني للدولة، حتى أن اللغة الأمنية باتت لا تنفك عن الارتباط بهذه الطائفة، أما بقية مكونات الشعب، فلا أعتقد أنها أتت إلا منذ سنواتٍ، ساهم الإعلام والمشروع الفارسي بتأجيجها. وهنا الحديث عن "الشيعة" وتسخير الالتفاف الطائفي نحو غاياتٍ سياسية، في ظاهرها، دفاعٌ عن النظام السوري/ الأسد، وفي أهدافها المعلنة، حماية المقدسات والأقليات، فيما تبطن حرباً فكرية، ذات منطقٍ توسعي استخرابي، ولا أصبغه بالطابع الاستعماري فهو بعيدٌ كل البعد عنه.
مع الوقت، فرضت الحرب التي تحولت من نضالٍ نحو التغيير السياسي إلى صراعٍ طائفي، وجود عقيدة قوية تجابه التطرف الفارسي، ذا اللبوس الشيعي، ونشأت تحت هذه المظلة "داعش"، وإن كان من يعزوها إلى صناعةٍ مخابراتية سيئة، حادت عن الخطّ المرسوم لها، وكان الثمن باهظاً، فرضية لها براهينها.

الفترة الماضية أسهمت، بلا شك، في تفكيك الترابط الاجتماعي، وتقلبات الأحداث، إبان الثورة، خلقت نوعاً من التضارب في الآراء داخل البيت الواحد، ساهم في تعميق الشرخ.
من يتحمل المسؤولية ليس النظام فحسب، إنها جريمة مشتركة، اشترك فيها كل المجتمع ورضخ لها، بل وعبّد لها الطريق، عندما وجد فيها ضالته ومأربه، في الوصول إلى نجاحاتٍ ضيقة. لكن، أن نبقى واقفين أمام توصيف الحالة التي بلغها هذا المجتمع. شخصياً، أعتقد أنه من الحماقة، والأجدر البحث في وضع حلولٍ لإعادة جسور التواصل بين جميع المكونات، وفتح مناخٍ ملائمٍ للحوار وتعزيز الثقة.
نحتاج للإجابة عن الأسئلة التي تطرح في الشارع، مَن بدأ بتسويغ القتل على الهوية؟ لماذا أبقانا النظام أدواتٍ، وأبعدنا وابتعدنا عن صناعة القرار؟
المعرفة، والكف عن النقد إلى نقض عرى الفساد ضرورة، تبدأ بالتمييز بين العدو والصديق، ونخرج من دائرة وسجن الاحتلال الفكري/ العبودية، التي هي أبشع من الاستعمار؟
يبدو أن العقل السوري والضمير بحاجة إلى صرخة ومرحلة تحرير، هي الأخرى من آفاتٍ ورواسب اجتماعية بالية، تضافرت عدة عوامل في إبرازها، وعمل النظام على الحيلولة دون علاجها، بل دفعها نحو المزيد.
هنا، مصارحة تعترف بواقعٍ مادي ضاربٍ إلى السواد، ومن حق الناس أن تعرف، لكن الواجب يحتم أن تنهض لإلغاء هذه الحالة وبترها.
ما نعيشه في سورية، اليوم، اجتماعياً بعد الثورة، يحتاج عودة العقول إلى البلاد، وليس العكس، وإلا فالجريمة تزداد أيادي مرتكبيها.
ملهاةٌ تراجيدية من العيار "الشكسبيري" الثقيل، لكنها، في النهاية، تعيش مرحلة المخاض، والمخاض لا بد منه، بعد أن عاش الناس كروبوتات رديئة الصنع، لا تعرف الطريق سوى "بكبسة زر".

هي صرخةٌ لإحياء الروح وبث الأمل رغم الضبابية التي صورتها، لكن الطبيب الماهر يشخص المرض ثم يعالجه، على أمل ألا تطول فترة التشخيص.

avata
avata
فرات الشامي (سورية)
فرات الشامي (سورية)