سوريون في الشمس

سوريون في الشمس

11 نوفمبر 2016
(يقطعون الحدود السورية التركية، تصوير: أوزان كوز)
+ الخط -

قبل عشر سنوات، قرأت ملخصًا لرواية "رجال في الشمس" لغسان كنفاني بعد أن تكلم لي والدي عنها وعما قد يفعله البشر لنيل الكرامة والحرية والأمان. منذ ذلك التاريخ، وأنا أفكر في اللحظات الأخيرة التي عاشها أبو قيس وأسعد ومروان في صهريج الماء محكم الإغلاق الذي ظنوه طوق النجاة والمخلص من حياة البؤس إلى حياة أفضل. كانوا ثلاثة فلسطينيين لكل منهم قصة أشبه بقصص السوريين اليوم.

ماتوا جميعًا خنقًا في داخل الخزان لأن المهرِّب تأخر عليهم ولم يفتح لهم الخزان في الوقت المناسب. تبدّدت أحلامهم على عتبات بلاد العرب.

اليوم يمر عام كامل على خبر اختناق السوريين الهاربين من الموت إلى أوروبا في شاحنة تقطر برّاد دجاج. يذكرني فيسبوك بهذا الخبر. عندها لم يخطر بذهني إلا "رجال في الشمس" وما حل بهم. ما هو شعورهم في اللحظات الأخيرة؟ وفي ماذا فكروا؟ ولماذا لم يصدروا أصواتًا لتنبيه السائق؟ وألف تساؤل وتساؤل.

أقول في قرارة نفسي هذا القدر. أعرف أن هذه الظاهرة من أهم تجليات الثورة السورية، وقد بدأت في وقت مبكر مع من لم يستطع صبرًا مع ممارسات النظام ولم تنتهِ مع من فقد حلمه بسبب ممارسات "داعش" وبعض المليشيات التي تقتل الشعب بالوكالة. حظيت الهجرة "غير الشرعية" المسماة بـ "اللجوء" بنوع من الاهتمام الإعلامي العالمي وقيل عنها الكثير.

 أحاول هنا أن أكون واقعيًا وأقنع ذاتي بأن الأمر قد انتهى ومضت عليه أشهر وأيام، وأن الأمور أصبحت بخير؛ فملف الهجرة قد انتهى ولن تتكرر الحادثة مجددًا. ليقطع تفكيري صوت رسالة:

"مرحبا صديقي، أنا أحاول الهروب من جحيم العيش في دير الزور إلى تركيا. أنا عالق الآن في وسط اشتباك بين تنظيم الدولة والجيش الحر في ريف حلب الشمالي. إذا قدر الله لي الموت أرجوك اكتب مات في سبيل حفنة كرامة".

أتخيل المشهد الذي يعيش مرارته وأدعو الله أن يخرجه سالمًا. اهتمامي بالإعلام يشدني للتفكير باتجاه واحد؛ من سيُري العالم معاناة هؤلاء الذين يصارعون البقاء في أخطر مكان في العالم حيث لا كاميرات ولا عربات بث ولا صحافة؟ وماذا عن هجرتهم الداخلية؟ ألا تعتبر أيضًا من أهم تجليات الثورة ذات الزوايا المظلمة؟ وما تصنيفهم عند العالم: أهم نازحون أم لاجئون أم مهاجرون؟

أدرك فقط أنهم سوريون. ذاك الاسم الذي اقترن بالشقاء والهم والبؤس وأدنى درجات الإنسانية.

يقدّر الله لصديقي الحياة والنجاة واللقاء بي ليخبرني بمسيرة هروبه تهريبًا من منطقة لأخرى في داخل سورية وصولًا إلى تركيا بر الأمان، دامت أكثر من خمسة عشر يومًا وكلفته كل ما يحمله من مالٍ جناه بعد أن باع أرضه في دير الزور في رحلة خطيرة رأى فيها الموت كل لحظة.

آخذ جرعة تفكير عميقة مع نفسي التي تؤكد لي في كل لحظة استقرار أن الواقع ما زال كئيبًا ويزداد مرارةً، ثم أقارن بلمح البصر بين السوريين و "رجال في الشمس "؛ لأدرك أن الفرق بين اليوم والأمس فرق عدد؛ فينوب في الموت عن الثلاثة فلسطينيين آلاف السوريين الذين كان همهم الوحيد النجاة ولا شيء غير النجاة.

تضاف طريقة الخنق إلى طرق الموت التي فتكت بالسوريين طول حقبة الثورة. الموت قتلًا وتشريدًا وقهرًا وتكفيرًا وإغراقًا وإحراقًا ودفنًا وتفجيرًا وتنكيلًا وتعذيبًا واضطهادًا واستغلالًا واغتصابًا. هي جرائم ازدادت من دون مبرر للسكوت عنها أمام عالم متخاذل.

المساهمون