سنة التدافع بين السجين والسجان

سنة التدافع بين السجين والسجان

25 اغسطس 2016
(خالد ضوّا / سورية)
+ الخط -

في منتصف القرن السادس عشر الميلادي، كتب المفكر الفرنسي أتين دي لابويسييه رسالة عنوانها "العبودية المختارة"، نُشرت بعد نحو قرنين من تاريخ كتابتها في قرابة ستين صفحة من القطع المتوسط، تساءل فيها: "كيف أمكن هذا العدد من الناس، من البلدان، من الأمم، أن يحتملوا أحيانًا طاغية واحدًا لا يملك من السلطان إلا ما أعطوه؟".

ويمضي في تساؤلاته: "كيف استطاعت جذور هذه الإرادة العنيدة، إرادة العبودية، الامتداد إلى هذا المدى البعيد حتى صارت الحرية نفسها تبدو اليوم كأنها شيء لا يمت إلى الطبيعة؟".

إن وراء هذه الظاهرة العجيبة عملًا ممنهجًا؛ الطغيان الذي يتحول الناس تحت وطأته - بحسب لابويسييه - إلى جبناء، ثم تتوالى أجيال تنشأ في ظل هذا الطغيان فتراه أمرًا عاديًّا: "يأتون طواعية ما أتاه السابقون اضطرارًا".

إنه ليس طاغية واحدًا في حقيقة الأمر، بل منظومة متكاملة يقف ذلك الطاغية على قمة هرمها. يشرح لابويسييه: "أربعة أو خمسة يشدون له البلد كلها إلى مقود العبودية... هؤلاء الستة ينتفع في كنفهم ستمئة... ثم هؤلاء الستمئة يذيلهم ستة آلاف تابع... ومن أراد التسلي بأن يتقصى هذه الشبكة وَسِعَه أن يرى لا ستة آلاف ولا مئة ألف، بل أن يرى الملايين يربطهم بالطاغية هذا الحبل".

وبرغم كل ذلك، تبقى دائمًا طائفة من الناس لا تخضع لهذه المؤثرات وتظل على فطرتها حرة كما أراد لها خالقها، يصفهم المفكّر: "أولئك هم الذين استقامت أذهانهم بطبيعتها، فزادوها بالدراسة والمعرفة تهذيبًا. أولئك لو أن الحرية امّحت عن وجه الأرض وتركتها كلها لتخيلوها وأحسوا بها في عقولهم وتذوّقوها ذوقًا ولم يجدوا للعبودية طعمًا مهما تبرقعت".

هؤلاء ترمقهم منظومة الطغيان وتخشى إن تركتهم أن تنتقل منهم العدوى تدريجيًّا إلى غيرهم، فتصوب إليهم سهام قمعها حتى ينسوا فطرتهم ويعودوا مستأنسين كبقية الجماهير.

السجن بيئة ملائمة تستخدمها منظومة الطغيان؛ تودع فيه هؤلاء الأحرار وتخضعهم لبرنامج مكثف بغرض إعادة تأهيلهم، فيعود الواحد منهم مواطنًا صالحًا يسهل الهوان عليه كالميت الذي ما لجرح به إيلام.

ومن خلال تجربتي كسجين سياسي منذ أكثر من عام ومن خلال ما سمعت من آخرين، رصدت بعضًا من هذه الإجراءات الممنهجة. حدّث ولا حرج عن التعذيب البدني ضربًا وصعقًا بالكهرباء، والتعذيب النفسي، مثل توجيه الشتائم والإهانات، إضافة إلى محاولات حثيثة لتطويع السجناء السياسيين وصبّهم في قوالب محكمة يُؤمرون فيطيعون كأنهم جنود في معسكر؛ إلزامهم بزي موحد وحلق شعورهم وإجبارهم على تنفيذ تعليمات بعينها دون نقاش.

تبدو هذه الإجراءات بسيطة في ظاهرها، ولكنها حينما تتراكم وتؤتي ثمارها يصل المعتقل إلى النقطة التي يفقد فيها قدرته على الممانعة ويصبح على استعداد كي يكون فردًا في قطيع دون أن يتململ.

حينما يغفل المعتقل عن الغرض من وراء هذه الإجراءات البسيطة في ظاهرها، تجده ينساق في تنفيذها لتمر أيام سجنه دون مزيد متاعب، ولكنه حينما يدرك مراميها وأبعادها تجده يسلك مسلكًا مختلفًا؛ يقاوم ويدافع ويمانع حتى يحتفظ بلياقته كإنسان حر وليس فردًا في قطيع.

ما زلت أذكر الساعات الأولى لاعتقالي؛ اقتادوني إلى قسم الشرطة في ساعة متأخرة من الليل وأودعوني قفصًا حديديًّا صغيرًا حتى ينتهوا من إجراءاتهم الإدارية.

اقترب مني ضابط عرف من أوراقي الرسمية أنني متخصص في اللغة العربية وآدابها وطلب مني بتعالٍ أن أعرب له جملة معينة، سددت له نظرات حادة وقلت: أنا لا يختبرني إلا أساتذتي، إياك أن تظن أنني في موقف ضعيف وأنا في قفص، أنا قوي في كل الحالات.

أُسقط في يده وأخذ يقسم بأغلظ الأيمان أنه لم يقصد اختبارًا بل قصد أن يتعلم. أعربتها له وفي نهاية حوارنا قال لي بإعجاب: إن لديك كرامة.

وحينما أودعت السجن، وجدت نزاعًا شبه يومي بين ضباط الشرطة وأفرادها من جهة وبين السجناء السياسيين من جهة أخرى؛ في كل مرة يحصون فيها أعدادهم يأمرونهم أن يجلسوا القرفصاء حتى يتمكنوا - بزعمهم - من إتمام المهمة بنجاح.

أدرك المعتقلون أن وراء هذا الأمر - الذي يبدو في ظاهره بسيطًا - رغبة في تطويعهم، فكانوا يرفضون الانصياع في كل مرة. وبعد شهور من الشد والجذب أدركت إدارة السجن أنهم لن يفلحوا فعدلوا عن الفكرة.

وقل مثل ذلك في عشرات المواقف التي تبدو في ظاهرها بسيطة، حتى غدا الأمر دفعًا ودفعًا مضادًّا بين فريقين، كلعبة عض الأصابع يضع كلا المتسابقين أصبعه تحت أسنان الآخر والخاسر من يصرخ أولًا.

في هذه اللعبة لا ينتصر فريق دائمًا ولا ينهزم فريق دائمًا، ولكنها سنّة التدافع بين متضادين، في غيابها فساد الأرض، وفي بقائها رفعٌ لراية الحرية التي يلتف حولها في كل زمان ومكان أهلها الجديرون بها.



* معتقل على ذمة قضية سياسية. عمل مدرسًا ومدققا لغويا ومعلقا صوتيا، مدون وناشط سياسي مصري، باحث متخصص في الأدب العربي الحديث

دلالات

المساهمون