كشفت مصادر دبلوماسية مصرية أن الزيارة التي أجراها رئيس المخابرات العامة عباس كامل إلى الخرطوم لبحث قضية سد النهضة، أمس الأول، هي الأولى من سلسلة زيارات سيجريها خلال الأسابيع المقبلة بين العواصم المرتبطة بالقضية والمُراقبة لها، مرجحة أن يزور كامل أديس أبابا قريباً، بصورة لم يتحدد بعد ما إذا ستكون سرية أم معلنة.
وقالت المصادر إن الرسالة الشفهية التي بعث بها رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي بواسطة عباس كامل إلى رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان، تضمنت إعراب مصر عن قلقها مما وُصف بـ"تذبذب الموقف السوداني" في القضايا الأساسية محل الخلاف مع إثيوبيا.
ولم يؤد التنسيق المصري مع السودان منذ إبريل/نيسان الماضي، في أعقاب رفض الخرطوم التوقيع على مسودة اتفاق واشنطن التي وقعت القاهرة عليها منفردة، إلى أي حلحلة لأنه لم يمس لب الأزمة، المتعلقة بالموقف الإثيوبي الرافض والمعتصم بالسيادة الذاتية على السد، والمحتمي بمواقف الدول التي يشارك مستثمروها في إنشائه، وليس بالقرار السوداني، الذي حتى بانضمامه لمصر، لا يضعف الموقف الإثيوبي، بل قد يؤدي إلى معادلة صفرية تعود بالمفاوضات إلى المربع الأول من جديد، منذ ما قبل توقيع اتفاق المبادئ في مارس/آذار 2015.
إشارات ومعلومات عن خلافات داخل مجلس السيادة حول التنسيق القائم خلال الفترة الأخيرة مع مصر في قضية سد النهضة
وذكرت المصادر أن السبب الأساسي للزيارة في هذا التوقيت أن الوفد السوداني، خلال الاجتماع التحضيري للجولة المقبلة من المفاوضات، أبدى موقفاً مغايراً لما كانت عليه مقترحاته في بعض النقاط التفصيلية المطروحة، لتكون جزءا من الاتفاق القانوني الملزم، فضلاً عن وجود إشارات ومعلومات عن خلافات داخل مجلس السيادة حول التنسيق القائم خلال الفترة الأخيرة مع مصر في القضية، حيث ترى بعض مكونات المجلس وأعضائه أن مصلحة السودان على المدى الطويل ليست مع الارتباط بالموقف المصري.
كما ربطت المصادر بين الزيارة وبين التصريحات الأخيرة التي أطلقها رئيس المفوضية القومية السودانية للحدود معاذ تقنو، وأبرزتها وكالة الأنباء الرسمية، والتي ذكر فيها أن "حلايب وشلاتين سودانية بنسبة مائة بالمائة، ولا يوجد ذرة شك في ذلك"، زاعماً، في الوقت نفسه، أنه "لا توجد مشاكل حدودية مع إثيوبيا" رغم الأزمات التي تتجدد في بداية كل صيف على مناطق الرعي والري في منطقة الغضارف جنوب شرق السودان. وأضافت المصادر أن السيسي طلب من البرهان وعضو مجلس السيادة المقرب منه محمد حمدان دقلو (حميدتي)، عبر رسائل حملها عباس كامل، تثبيت موقف السودان المعارض للإجراءات الأحادية الإثيوبية لإظهار أديس أبابا كطرف منقلب على طاولة التفاوض، ما يمكن القاهرة من فتح خطوط اتصالات دولية، لاجتذاب تأييد دولي ومؤسسي لموقفها.
سيروج كامل لموقف القاهرة الأخير من نقل الملف إلى مجلس الأمن ثم الاتحاد الأفريقي باعتباره شهادة لحسن نواياها
وجدد السيسي تعهده بإرسال مزيد من المساعدات لمجلس السيادة السوداني، على مستوى الدعم الفني والمالي في مجالات الزراعة والنقل والطاقة، فضلاً عن عروض الوساطة لدى بعض الدول الأوروبية لاجتذاب المزيد من المساعدات والقروض، إلى جانب المضي قدماً في ملف التعاون الأمني والاستخباراتي، والتواصل مع عدد من الجهات الدولية المانحة في أوروبا ووزارة الخزانة الأميركية، لدعم موقف السودان في المطالبة بالحصول على عدد من القروض التنموية وإسقاط مديونيات قديمة.
أما الزيارات القادمة المتوقعة لعباس كامل، بما في ذلك الزيارة المحتملة لإثيوبيا، فأوضحت المصادر أنها ستركز على تأكيد استبعاد مصر للحلول العنيفة في التعامل مع القضية، والترويج لموقف القاهرة الأخير من نقل الملف إلى مجلس الأمن ثم الاتحاد الأفريقي باعتباره شهادة لحسن نواياها. إلى جانب التأكيد على حرص السيسي شخصياً على استقرار الوضع السياسي في إثيوبيا، وعدم ممانعته في توجه رئيس وزرائها أبي أحمد للرأي العام في بلاده ببيانات وتصريحات، ربما يراها المصريون سلبية، لكنها تسهم في تهدئة الأوضاع في إثيوبيا وضمان استقرار نظام الحكم فيها، ولكن في المقابل ينبغي على أحمد ووزرائه الالتزام بمسار تفاوضي منتج وفعال تحت رقابة واضحة. وأشارت المصادر إلى أن هذه الرؤية تم إخطار بعض العواصم المراقبة بها أخيراً في إطار طلب السيسي منها ممارسة ضغوط على إثيوبيا.
وثمة خيط يربط بين المعلومات التي ترويها المصادر عن الخطاب المصري في كواليس الاتصالات والزيارات والخطاب الذي أدلى به السيسي، أمس الأول، عن تطورات الأزمة، والذي كان هدفه تهدئة الرأي العام المصري، وإسكات الأصوات التي تعالت أخيراً في وسائل الإعلام تطالب باتخاذ مواقف صارمة من إثيوبيا، بما فيها مقترحات العمل العسكري. وفي هذا الصدد، كشف مصدر إعلامي، في إحدى القنوات المملوكة للمخابرات العامة، أن تعليمات جديدة صدرت بشأن تناول القضية بعد خطاب السيسي، تتضمن التركيز فقط على المسار التفاوضي والمشاريع التي تقلل حجم الأضرار المتوقعة على مصر، وعدم استضافة شخصيات تناولت أخيراً احتمالات العمل العسكري أو التخريب.
وبالتوازي مع تلك المستجدات، كشفت المصادر الدبلوماسية تجدد الاتصالات بين مصر والصين لاستكشاف ما يمكن للأخيرة تقديمه لحلحلة الأزمة، بالضغط على الجانب الإثيوبي أو بتقديم مساعدات "كبيرة" لمصر لمساعدتها على تلافي الأضرار المتوقعة، بما لها من خبرات طويلة في التعامل مع قضايا الأنهار. وترتبط هذه الاتصالات بالعرض الذي سبق وقدمته لتقريب وجهات النظر منتصف الشهر الحالي، والذي سبق ووصفته مصادر، "العربي الجديد"، بـ"محاولة لتحسين العلاقات وتلافي اهتزاز الثقة بين الجانبين، بعد إعاقة الصين طرح مشروع القرار المصري المدعوم أميركياً لإلزام إثيوبيا باستئناف المفاوضات ومنع الملء الأول المنفرد للسد". ويتضمن العرض دخول بكين كوسيط مستقل لمحاولة تقديم حلول وسط بين الجانبين، على أن يتم إعدادها بواسطة أخصائيين فنيين تابعين للحكومة الصينية، لكن مصر فضلت آنذاك إرجاء خطوة التدخل المباشر بهذا الشكل إلى ما بعد انتهاء المفاوضات برعاية الاتحاد الأفريقي.
يذكر أن السيسي حسم، أمس الأول، الخيارات المتاحة أمامه، قاصراً إياها على التفاوض ومشاركة الشعب المصري مع الحكومة في المشاريع التي تهدف إلى تقليل الأضرار الحتمية الناتجة عن إنشاء السد وتشغيله وملئه، رافضاً التلويح بتهديد الإثيوبيين، ومنتقداً الداعين إلى العمل العسكري أو التخريبي للسد.