سد النهضة: رهان مصري على أميركا بلا ضمانات

سد النهضة: رهان مصري على أميركا بلا ضمانات

18 يوليو 2020
تقول إثيوبيا إن السد لن يضر بمصر (أشرف الشاذلي/فرانس برس)
+ الخط -

تمضي مفاوضات قواعد ملء وتشغيل سد النهضة بين مصر وإثيوبيا والسودان من تعثر إلى فشل إلى خلاف كامل في وجهات النظر. وبينما تستهلك أديس أبابا هذه المسيرة في التلاعب سياسياً وإعلامياً بمصر تحديداً، يتضح أنّ النظام المصري يضع كل رهانه على الحسم الأميركي للقضية، على الرغم مما أظهرته واشنطن في الأشهر الماضية من عجزها عن تحقيق اختراق كبير في الملف، وإجبار إثيوبيا على التفاوض الجاد وصولاً إلى اتفاق يراعي شواغل جميع الأطراف، الأمر الذي ينعكس على المسار التفاوضي بالانسداد، ويعقد الأمور أكثر على الوفد المفاوض المصري بشقيه الفني والقانوني.

وتكشف مصادر فنية حكومية ودبلوماسية مصرية واسعة الاطلاع على مجريات التفاوض، لـ"العربي الجديد"، أنّ وزارتي الري والخارجية تتلقيان باستمرار رسائل طمأنة من جهاز المخابرات العامة والدوائر اللصيقة برئاسة الجمهورية بأنّ الموقف المصري الفعلي في القضية قوي، وأنّ العلاقة بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ونظيره الأميركي دونالد ترامب سيكون لها أثر إيجابي في التوقيت الحاسم من القضية، وكذلك أنّ الاتصالات الجارية مع الروس والفرنسيين وحتى الصينيين تؤكد عدم قبول أي من تلك الدول إيقاع الضرر بمصر.


تطمينات لوزارتي الري والخارجية بأنّ العلاقة بين السيسي وترامب سيكون لها أثر إيجابي في التوقيت الحاسم من القضية

وتوضح المصادر أنه على الرغم من كون الطمأنة السياسية من قبل تلك الدول أمر إيجابي بحد ذاته، لكن المقلق أن هذا الأمر لا يتطور في الواقع إلى ممارسة ضغوط ذات جدوى على الإثيوبيين الذين يخرجون من كل جولة تفاوض كما دخلوها، بالإصرار نفسه على رفض جميع المقترحات المصرية والسودانية الوسيطة. الأمر الذي يجعل المفاوضين يشككون في تلك التطمينات، خصوصاً بعد تعثر المساعي المصرية "السياسية الخالصة" في استصدار قرار من مجلس الأمن لإلزام إثيوبيا بالتوصل إلى اتفاق ملزم والامتناع عن الملء المبكر قبل ذلك، وكذلك عدم قدرة مصر حتى الآن على استصدار بيان رئاسي أو حتى إعلامي من المجلس بهذا الشأن.

وعن الموقف الفني الحالي للمفاوضات ولتفكيك الغموض حول ملء السد؛ قالت المصادر الفنية إنه في الوقت الحالي تتجمع كمية من المياه ربما تزيد على 3 مليارات متر مكعب خلف سد النهضة، لكن لا يمكن القول إنّ إثيوبيا بدأت الملء إلا بعد معالجتها بشكل تام لحوض السد لجعله قادراً على استيعاب تلك الكميات من المياه، وكذلك تشغيل القناة الواصلة بين سد النهضة وسد السرج (الاحتياطي) لتمرير المياه الزائدة عن استيعاب حوض السد الرئيسي في المرحلة الحالية، وكل هذا لم يحدث حتى الآن.

ورجحت المصادر أن تكون إثيوبيا قادرة على اتخاذ هذه الإجراءات خلال فترة تتراوح بين أسبوعين وشهر، مشيرةً إلى أنّ الأداء الإعلامي الإثيوبي سواء كان موجهاً للداخل أو الخارج يريد تكريس رؤية مفادها بأنّ "الملء الأول من حقنا وليس محل إشكال، وفي لحظة ما سنبدأ الملء لأنه من الضروري أن نفعل ذلك"، مما يعكس رؤية سيادية خالصة للسدّ باعتباره مشروعاً خاصاً لا قضية خلافية مع دولتين ستتضرران منه.

وتشرح المصادر أنّ المشكلة الحقيقية في الملء الأول المبكر للسدّ، الذي أكد الإثيوبيون حريتهم الكاملة فيه مراراً، قبل وبعد التصريحات المتناقضة منهم بشأنه يوم الأربعاء الماضي، لن تكون في فداحة الأثر السلبي على مصر من حيث تقليل كميات المياه الواصلة إلى بحيرة ناصر، ذلك لأنّ إجمالي المياه التي سيتم تخزينها خلال فترة الملء الأول وهي 4.9 مليارات متر مكعب قد تم بالفعل أخذ الاحتياطات اللازمة لتعويضها لمدة عام، فضلاً عن أنها في الواقع، وبالنسبة لفترة الرخاء الحالية، كمية تقل كثيراً عن كميات المياه التي كانت تنقص في السنوات العشرين السابقة من إيراد النيل لأسباب مختلفة، وهي كميات تتراوح بين 6 و9 مليارات متر مكعب. وتوضح المصادر أنّ الأثر السلبي الحقيقي هو أن إثيوبيا ستتجرأ على التحكم في مياه النيل مستقبلاً، من دون ضابط أو رادع، متخذة من سابقة ملئها السد بقرار سيادي حجة للخروج عن أي اتفاق يمكن إبرامه مع مصر والسودان، وإقدامها على تغيير نسب التدفق ومعدلات التشغيل بين فترة وأخرى، أخذاً في الاعتبار استنادها الدائم لاتفاق المبادئ الموقع بين الدول الثلاث في مارس/آذار 2015، الذي يجيز لها إعادة ضبط القواعد من وقت لآخر، وأن الإخطار المسبق الوحيد الذي تكلف به ضمن الاتفاق هو إخطار دولتي المصب بأي ظروف غير منظورة أو طارئة تستدعي إعادة الضبط لعملية تشغيل السد.

وعلى الرغم من أنّ المادة الخامسة من اتفاق المبادئ التي تفسرها إثيوبيا بهذه الصورة النصية والضيقة، قد نصت أيضاً على استمرارية التعاون والتنسيق حول تشغيل سد النهضة مع خزانات دولتي المصب، بإنشاء آلية تنسيقية مناسبة فيما بينها، فإنّ إثيوبيا تماطل أيضاً في استحداث تلك الآلية بحجة أنه يمكن وضعها بعد إتمام الملء الأول.


الصين وفرنسا وإيطاليا وألمانيا مازالت مقتنعة إلى حدّ كبير بالمصفوفات الإثيوبية

وتعدّ الصياغة غير المحكمة لاتفاق المبادئ من الأسباب الرئيسية التي أوقعت مصر في هذا المأزق، فعلى الرغم من أحقيتها وفق قواعد القانون الدولي وسوابق المحاكم الدولية في الحصول على إخطار مسبق بأي تصرف على النيل سيؤثر على حصتها من المياه، فإنّ تمسكها قبل أديس أبابا باتفاق المبادئ وحده لا يكفي لإنجاح المفاوضات، ولا يقنع المراقبين بمنطقية مطالباتها بالاتفاق على جميع النقاط المستقبلية العالقة قبل الملء الأول، فيما تطالب إثيوبيا بتأجيل بعض النقاط إلى ما بعده.

وتستطرد المصادر الفنية المصرية في شرحها موضحةً أنّ الرهان المصري على أميركا أيضاً لا يضمنه شيء، لأنّ الأخيرة من أقل الدول مساعدة لإثيوبيا في مشروع السد وتأثيراً عليها في هذا الإطار. أمّا الدول الأكثر مساعدة لها اليوم واستفادة من السد غداً، مثل الصين وفرنسا وإيطاليا وألمانيا، فهي ما زالت مقتنعة إلى حدّ كبير بالمصفوفات الإثيوبية التي تزعم عدم إيقاع أي أضرار بمصر في أي مرحلة من مراحل ملء وتشغيل السد. وذلك على النقيض تماماً من المصفوفات والتقارير الفنية المصرية، التي لا تتحدث فقط عن خروج آلاف الأفدنة من الرقعة الزراعية على مراحل، ربما تبدأ في العام بعد المقبل، ولكن أيضاً عن المصروفات الضخمة التي يتحتم على مصر أن تنفقها في المستقبل البعيد لتحسين الظروف البيئية للمياه، وتحسين جودتها وجعلها صالحة للشرب، بالنظر للتوسّع الكبير الذي سيطرأ على استخدامها للأغراض الزراعية والصناعية والتنموية في كل من إثيوبيا والسودان.

وقبل كل هذه الاعتبارات الفنية والبيئية والاقتصادية؛ سيكون لسد النهضة حال تشغيله بمعزل عن الإرادة أو حتى المراقبة المصرية، تأثير خطير على الموقف الاستراتيجي لمصر، بوضعها تحت رحمة إثيوبيا. وهو ما عبر عنه جميع المراقبين وحتى المسؤولين الحكوميين المصريين مراراً، خصوصاً أنّ التقديرات المصرية والسودانية تتفق على أنه لا يمكن قبول الرواية الإثيوبية الدائمة بأنّ سد النهضة يهدف في الأساس لتوليد الكهرباء وحسب، إذ إنّ ضخامة هذا السد لن تسمح له فقط بالإسهام في تحقيق نهضة غير مسبوقة للزراعة في إثيوبيا على مدار تاريخها، بل أيضاً سيسمح لأديس أبابا بممارسة ضغوط استراتيجية على السودان ومصر سيصعب التعامل معها مستقبلاً، وقد يكون السد منفذاً لممارسة قوى أخرى لتلك الضغوط من خلال أديس أبابا، وكذلك الإسهام في تحويل الأخيرة إلى مركز الثقل السياسي الرئيسي بمنطقة شرق أفريقيا. فضلاً عن زيادة فرص منافستها لمصر على اجتذاب المشروعات التنموية من المستثمرين بمختلف دول العالم، والذين كانوا يفضلون مصر بسبب أفضليتها اللوجستية والمرافقية قياساً بباقي دول المنطقة.


أكد السيسي لرامافوزا رفض مصر لأي عمل أحادي وتمسكها بحتمية التوصل إلى اتفاق قانوني شامل

وأمس الجمعة، تلقى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي اتصالاً هاتفياً من رئيس جنوب أفريقيا والاتحاد الأفريقي سيريل رامافوزا، تباحثا خلاله بمستجدات المفاوضات الثلاثية بشأن سدّ النهضة. وأكد السيسي، بحسب بيان رسمي صدر عن الرئاسة المصرية، رفض مصر لأي عمل أحادي وتمسكها بحتمية التوصل إلى اتفاق قانوني شامل.

ومن المقرر أن يدعو رامافوزا الدول ذات الصلة بالقضية، وأعضاء مكتب الاتحاد الأفريقي والمراقبين، إلى قمة أفريقية مصغرة خلال أيام، تبقى مهددة بالإلغاء أو التأجيل، على خلفية التصريحات المتضاربة لإثيوبيا حول ملء السد. إذ سبق وقال مصدر دبلوماسي مصري لـ"العربي الجديد"، إنّ القاهرة تجري اتصالات استخباراتية ودبلوماسية بالدول ذات الصلة للوقوف على مستجدات الموقف، وأنه في حال التأكد من الخطوة الإثيوبية، فمن الوارد "انسحاب مصر من المفاوضات تحت رعاية الاتحاد الأفريقي، وبالتالي وقف إجراءات الإعداد للقمة الأفريقية المصغرة".

وهناك سيناريوهات عدة مطروحة للقمة، إذ تتجه بعض الأصوات إلى أن تعدّ جنوب أفريقيا بصفتها رئيس الاتحاد الأفريقي، خلال أيام، تقريراً عن المشاكل محلّ الخلاف مصحوبة بتفريغ للحلول المقترحة من كل جانب لعرضها والتصويت عليها واتخاذ قرارات حاسمة بشأنها خلال القمة المصغرة. بينما تتجه أصوات أخرى إلى أن يتم عرض التقرير على القمة وتحديد الخطوط العريضة للاتفاق على ضوء المقترحات، على أن يخصص أسبوع آخر للصياغة بواسطة لجنة مصغرة تمثل فيها جميع الأطراف.

وكانت أوضحت مصادر لـ"العربي الجديد" في وقت سابق، أنّ بعض البنود التي من المفترض أن تكون قد حُسمت، مثل قواعد الملء الأول، وحجم التدفق البيئي، والمبادئ التوجيهية للملء الأول، والقواعد العامة لإدارة فترات الجفاف، وقواعد سلامة السد والمساعدة في استمرار تشغيله، ودراسات التقييم، وموعد تطبيق تلك القواعد، ستُراجَع صياغاتها مرة أخرى لاتصالها بقضايا فنية لم تحسم بعد.

يذكر أنّ مصر سبق أن تلقت تطمينات من الولايات المتحدة بأنه سيكون من السهل تمرير بيان رئاسي، وليس بياناً إعلامياً، من مجلس الأمن تم تجهيزه بالفعل ضد الممارسات الإثيوبية، وطرح مشروع قرار في المجلس إذا فشلت جولة المفاوضات الحالية، التي تعتبر بمثابة "الفرصة الأخيرة" قبل وصول الأمور لطريق مسدود تماماً، لكن هذا المشروع يواجه اعتراضات من مجموعة دول من أعضاء المجلس الدائمين والحاليين منها الصين وروسيا وبلجيكا وجنوب أفريقيا والنيجر.