ساعة المدينة مقابل صيف القرية

ساعة المدينة مقابل صيف القرية

26 مارس 2015
+ الخط -

مع بداية 1995، وبداية حياتنا الجديدة في المدينة، صارت تجيء في بالي أفكار كثيرة عن الوقت، كنت متأكدا بطريقة أو بأخرى أن المدن بلا وقت بالمرة، بالنسبة لي على الأقل، أنا الذي جئت إلى هذه البنايات العالية، محملا بتفاصيل القرية الصغيرة، التي كانت لنا توقيتا أهم وأدق من هذه الساعات المعلقة في كل زوايا البيت، المدرسة، والشوارع. كانت علاقتنا مع الشمس أكثر وضوحا، وكنا نكتشفها بدون أجهزة مدورة تدق طول الوقت. في بيت جدي الكبير، كانت أمي تنزع بطاريات الساعة الوحيدة في البيت باستمرار، في كل ليلة، لم نفهم يوما عداءنا لصوتها، الذي لم أعد أراه الآن مزعجا. كان لون وطول العشب، وصوت الغنم، ولون التراب كافيا كي لا نحتاج أجهزة الوقت هذه، وكانت ملامح الفصول واضحة أكثر.

مع عودة العائدين من الأردن، إلى أقاربهم في كل مرة، كنا نعرف أننا على أبواب الصيف، ومع مغادرتهم كان فراغ القرية ينبئنا أنه الشتاء بدأ، وأن المدارس على الأبواب، في طفولة كل طفل أو طفلة منا، كان هناك حبيبة أو حبيب يجيئون في كل صيف، من بلاد أخرى، لم أفهم بالضبط إلى الآن، ما الذي جعل البنات العائدات أجمل من بنات القرية، لم يكن لبسهن مختلفا، ولا ألعابهن حتى، تختلف أحيانا طريقتهن في الكلام، ولكن لم يكن هناك فرق واضح يمكن أن يفسر علاقتنا جميعنا بهن، هل كان هذا دافعنا كلنا، للاكتشاف، دافعنا الذي بتره سقف المدينة المغلق، وجدرانها الطويلة جدا. ربتنا القرية على أن نكون خائفين من ما هو جديد دائما، قال لي مرة أستاذي في الجامعة، أن الكهرباء أفسدت أشياء كثيرة لم ندركها، لقد أفسد الضوءُ الذي صار في كل مكان، خوفَنا من الأماكن المعتمة، وخيالنا الذي يتسع أكثر مع الخوف، وقصصا سمعناها طول الوقت عن أشباح وقديسين وأولياء، وصارت كلها نكتة من نكات إنسان المدينة الكثيرة. كنت موقنا أيضا، أن صنابير الماء، قتلت أشياء كثيرة منا، قتل هذه الجديد الذي لم يعد يلزمنا بعده أن نمشي مسافات طويلة، إلى النبع، قتل حبنا ومكان لقاءاتنا الأولى، وصار مكانا مهجورا، وبنات القرية، لم يعدن إلى هناك بالمرة، وصرن فجأة يلبسن لباسا غريبا.

مع إنشاء السلطة الفلسطينية، عاد عدد كبير من العائدين بشكل نهائي إلى الوطن، وانتقل عدد كبير أيضا من شباب القرية إلى العمل في رام الله، صار من الصعب أن ترى مكانا مزروعا في القرية، إلا نادرا في حدائق البيوت الصغيرة، وصار رعي الغنم حكرا على مجموعات من البدو القريبة، واختفت الأبقار جميعها!

وجاءت حبيباتنا مرة أخرى، لكن هذا الصيف لم ينته، اختلت مواقيتنا جميعها، كان الشتاء مرتبطا في خيالنا فقط بمغادرتهن، لم يغادرن، لم يأت الشتاء أبدا، أصبحن نسخاً عن بنات القرية، وأصبحن عاديات جدا، وصار الوطن عاديا جدا في عيونهن.


(فلسطين)

المساهمون