ركائز روما الدبلوماسية في ليبيا

ركائز روما الدبلوماسية في ليبيا

22 أكتوبر 2018
+ الخط -
قام رئيس الدبلوماسية الإيطالية، إنزو ميلانيزي، بحراك دبلوماسي مكثف في أروقة الاتحاد الأوروبي، للحصول على الدعم من نظرائه الأوروبيين لبلاده التي تسعى إلى عقد مؤتمر، في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، يبحث الأزمة الليبية ومساراتها المعقدة. وقد نجح الوزير ميلانيزي في انتزاع موقف أوروبي موحد بشأن قيادة بلاده القاطرة الأوروبية في ليبيا، وهو ما عكسه موقف وزراء خارجية الاتحاد الداعم للخطوة الإيطالية، بضرورة وجود صوت أوروبي موحد وجهد متماسك لدعم الأمن والاستقرار في ليبيا. وهو ما يطرح تساؤلاتٍ عن جدوى هذا المؤتمر الذي سبقته مؤتمرات واجتماعات عديدة في فيينا وباريس ولندن، ولم تحمل أي تغيير في مسار الأزمة الليبية المتفاقمة. وهل تحرك روما تجاه الأزمة التي تشكل تهديدًا أمنيًا واقتصاديًا لها يأتي في إطار تأكيد دور روما في مواجهة دور باريس المتنامي والمنافس في الساحة الليبية، الذي أدى إلى تضرّر مصالح روما وأضعف من نفوذها؟

اللافت أن الحكومة الإيطالية الجديدة التي يترأسها جوزيبي كونتي تتبنّى خطة عمل جديدة في ليبيا واضحة ومحددة، تقوم على ثلاث ركائز، تشكل جزءا من استراتيجيتها تجاه الأزمة الليبية؛ أولاها: انفتاح روما على كل القوى السياسية والعسكرية المحلية شرق البلاد وغربها، على عكس الحكومة السابقة التي رأسها ماتيو رينزي، حيث اقتصرت علاقاتها على دعم حكومة الوفاق الوطني، مع بناء علاقات سياسية وأمنية محدودة مع التشكيلات والقوى العسكرية في الشرق الليبي. وقد تغير هذا التوجه، وبدأت الحكومة الجديدة بناء جسور ثقةٍ مع الشرق الليبي، وتحديدا مع العقيد خليفة حفتر، إذ قام مسؤولون إيطاليون بسلسلة زيارات، جديدها زيارة وزير الخارجية الذي التقى حفتر، واعتبره طرفاً لا غنى عنه، فيما يخص التعامل مع الملف الليبي. واستدرك الوزير الإيطالي، عندما أشار إلى أهمية دور رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني، فائز السراج، وأنّه الطرف الأساسي والشرعي الذي تتعامل معه روما في ليبيا.
الركيزة الثانية في الدبلوماسية الإيطالية بناء جسور الثقة مع القوى الإقليمية الفاعلة والمؤثرة في المشهد السياسي الليبي الداخلي، وفي مقدمتها القوتان الجارتان جغرافياً لليبيا (الجزائر، مصر)، فقد أبحرت سفن الدبلوماسية الإيطالية شطر القاهرة، لتطوي روما صفحة التناقض والتوتر التي شهدتها العلاقة مع القاهرة على خلفية مقتل الشاب الإيطالي، جوليو ريجيني. وقد زار وزيرا الداخلية ماتيو سالفيني، والخارجية أنزو ميلانيزي القاهرة تباعًا، وأكّدا أهمية الدور الذي تلعبه مصر في العملية السياسية الليبية. وشهدت القاهرة التي تبني تحالفًا مع العقيد حفتر سلسلة اجتماعات، بهدف توحيد المؤسسة العسكرية الليبية. وكان حفتر قد وافق أخيرا على مقترح القاهرة بشأن تشكيل مجلس عسكري موحد يضم عددًا من الضباط، شريطة أن يختارهم هو نفسه، ولعل ذلك ما يفسّر تعيين المجلس الرئاسي في ليبيا فائز السراج وزيرًا للدفاع، استدراكًا لأي تغيير قد يحمله قادم الأيام في تركيبة المؤسسة العسكرية.
ومن هنا يأتي انفتاح روما على القاهرة، المدعوّة إلى حضور مؤتمر باليرمو، لما لها من تأثير على القوى العسكرية والسياسية في الشرق الليبي من ناحية، ولعلاقات القاهرة مع الرياض وأبوظبي اللتين تملكان أيضًا تأثيرا ونفوذا في الشرق الليبي عمومًا، وعلى التشكيلات العسكرية التي يقودها حفتر خصوصًا. في المقابل، تدرك روما أهمية القوة الإقليمية الثانية، وذات الحدود الممتدة مع ليبيا، وهي الجزائر التي تشترك بحدود مباشرة مع ليبيا بطول 700 كلم تقريبًا، والتي تسهل انتقال الأفراد والسلاح. ولذلك تخشى من انتقال تأثير الأزمة، فهي تعمل على عدم السماح بحدوث خلل في توازن القوى في ليبيا، وتعمل جاهدةً للحفاظ على توازن استراتيجي داخلها بين القوى السياسية والمحلية، من خلال الحد من دور الدول المؤثرة، مثل مصر وفرنسا، ولن تسمح لها بالسيطرة الكاملة على المشهديْن، السياسي والعسكري، وبالتالي لن تسمح للعقيد حفتر بامتلاك زمام المبادرة بالسيطرة على كامل ليبيا، وهي التي رفضت استقباله بالزي العسكري في زيارته الجزائر عام 2016، في مؤشر على رفضها التعامل معه قائدًا للجيش الليبي. وهنا أهمية الدور الجزائري بالنسبة لروما في إحداث نوع من التوازن في محاولات القوى الإقليمية الانفراد بالعملية السياسية الليبية. وتدل المؤشّرات على أن الملف الليبي سيكون حاضرًا بقوة على جدول أعمال رئيس الحكومة الإيطالي، جوزيبي كونتي، في زيارته الجزائر مطلع الشهر المقبل.

الركيزة الثالثة هي اعتماد روما على دعم الاتحاد الأوروبي ومؤسساته في التحرّك تجاه ليبيا، فقد أكدت الممثلة العليا للسياسة الخارجية الأوروبية، فيدريكا موغيريني، مشاركتها شخصيًا باسم الاتحاد الأوروبي في أعمال مؤتمر باليرمو، في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، بشأن ليبيا. وأشارت موغريني إلى دعم الاتحاد الأوروبي خطة التحرّك الإيطالية. حيث تحاول روما جاهدة الحفاظ على مصالحها ونفوذها في ليبيا، فضلًا عن أمنها القومي الذي تعرفه انطلاقًا من السواحل الليبية، ومن الحدود البرية الجنوبية لليبيا. كما تحاول روما التقليل من نفود باريس التي أجرت مراجعة شاملة لفكرها الاستراتيجي في المجالات العسكرية والأمنية في الخارج، وما فتئت تحاول الظهور بمظهر القوة الأوروبية الأكثر دينامية وقدرة على التحرّك في محيطها الإقليمي. وقد طفا التنافس الإيطالي الفرنسي على السطح، بعد أن صرح وزير الداخلية الإيطالي، ماتيو سالفيني، بأن فرنسا هي التي تقف وراء حالة الاضطراب الأمني في الغرب الليبي، على خلفية أحداث طرابلس أخيرا.
على الرغم من وجود الركائز الثلاث التي تقوم عليها المقاربة الإيطالية للأزمة الليبية، والتي تحدّد هامش التحرك الدبلوماسي الإيطالي، إلا أن روما تواجه مجموعةً من العقبات التي قد تجعل هذا المؤتمر مشابها من ناحية المخرجات لمؤتمرات سبقته؛ أهمها طبيعة الائتلاف الحكومي الحالي في إيطاليا، وعدم قدرته على تبنّي توجه واضح تجاه أزمات إيطاليا الداخلية الاقتصادية والسياسية والأمنية، وهو ما سينعكس بوضوح على توجّهاتها ومقارباتها للأزمات الخارجية، وفي مقدمتها الأزمة الليبية. إضافة إلى غياب استراتيجية واضحة للولايات المتحدة الأميركية تجاه ليبيا، ودورها المحدود في محاربة الإرهاب، والحفاظ على المناطق الجيوسياسية بالنسبة لواشنطن في ليبيا، وهي منطقة الهلال النفطي. ولم تتبلور، حتى اللحظة، مواقف الأطراف السياسية والعسكرية الليبية من الخطوة الإيطالية، وفي مقدمتها العقيد خليفة حفتر الذي لم يظهر أي موقف واضح من المؤتمر ومشاركته فيه. كما أن الحماسة الأوروبية لعقد مؤتمر باليرمو ظاهرية أكثر منها فعلية ومؤثرة، خصوصا أن روما، حتى هذه اللحظة، لم توضح ماهية المؤتمر والأطراف التي تشارك فيه، وجدول أعماله، ما يفقده محتواه السياسي.
05C60754-3195-4BA1-8C61-5E78E41A4B63
أحمد قاسم حسين

كاتب وباحث فلسطيني في مركز الأبحاث ودراسة السياسات، مقيم في الدوحة