رحاب المسرى وحضرة المعراج

رحاب المسرى وحضرة المعراج

16 يوليو 2015
عيناكَ لا تزالان على هيبةِ الأسوارِ (فرانس برس)
+ الخط -
في القدس، كيف لك أن تنجو من خاصرة البلدة القديمة حين تستدرجك لتكشف غمار أسوارها الممتدة على محيط خصرها. هناك حَيث تَحضر أنفاس امرأة العزيز فيراودك التاريخ عن نفسه وأنت تفيض من باب العامود للقاء الأقصى، مَدخَل قد استوطن صدر الأسوار بأبراجه الدّفاعيّة وثراء جماله المعماريّ، ثراء من القرن السادس عشر، جاء بهِ السّلطان العثمانيّ سليمان القانونيّ، يتجلى بهِ لقاء العمارة العسكريّة بعظمة تصميمها وآيات من هيبة الجمال المتين.


تَتَلقّفك الأسواق وعيناك لا تزالان على هيبة الأسوار، تفرض عليك وداعًا يقذف بِك إلى جمال سكّانها واكتظاظ الخطى. هناك حيث تستكشف الوجوه التي تلقاها كأنما بها تبحث عن خباياك. يوقفك قلبك يودّ أن يتفرّس ملامح نسوة يبعن ثمرًا من أرحام الأرض. هذا عنب يشَبّه لك خمرًا في أيدي امرأة تخجل أن تسوّقه للمارين، وتلك أُخرى تنثر أوراق النعناع في محيطها وأوراق العنب تحضر بثقة الأرض والهوية.

الأسواق المؤدية إلى الأقصى تَجعل ناظرك محضرًا، تجد من تراث فلسطين وزيها، من سماتها وعاداتها، من خيراتها ومدّخراتها، تاريخها العريق وحاضرها المثقل. هناك تحدّثك أناشيد المقاومة الفلسطينيّة، تبعث الصّمود إلى خطاك فتصير سريعة واثقة وما إن تسبق صوتها حتى تجد صوت القرآن حاضرًا تاركًا في أنفك رائحة زكيّة مدادها الأنفة والعزّة.

في السّوق تحضر الأماكن والدّول عند بائع البهارات، وتستدرجك الحلويات بأنواعها وروائحها السجينة، علّك تحررها من سيدها بائع الحلويات. أما الخبز الأشقر الذي سمّروه وصلبوا عليه حبات من السمسم فهو معلم من معالم المكان، لا يتمّ مرورك إلا به، حلقة دائرية من الخبز تشتريها، تتقاسمها مع رفقاء دربك تشعرك أنّك تذوّقت ألذّ ما في المكان!

ثمّة ديناميكيّة رهيبة، مشاهد تدرك قلبك فتتداركه، تدهشك، وتبعث في النّفس مساحات شاسعة من التّفكّر، سرعان ما تصير منها طريح التساؤلات والأفكار. بساطة النّاس من حولك، عفويتهم المولودة من مخاض فكرهم الذي أبى أن يرضى بحتميّة الاحتلال، نشاطهم وقدرتهم على الاستمرار رغم الإمكانيات المعدومة.. هذه الولادة المتجددة من العدم، الولادة التي لا تتوقف عن النّمو والنّماء كيف لم يكبّل منها الخطى، محتل غاشم!

السّوق يحفل بهدايا الطّفولة، كأنّ شيئًا في المكان خُلق للأطفال، لِحبّهم وشغفهم واندفاعهم. البائع ينادي المارين: "تعال فرّح الولد، فرّح ابنك بهديّة" يكررها كأنّه شريط عالق في مسجّل. والهدايا من حوله تتناثر بأشكالها وألوانها، بخواصها المولودة من ملامح الصّراع. البنادق البلاستيكيّة ترفع فوّهتها في الأفق، والسّيوف المضيئة تشعل المكان بشعاع لونها، أما القنابل الخضراء والأصفاد المصنوعة من البلاستيك فهي عتادٌ آخر يباع. ومن الهدايا التي لا تزل عالقة في ذهني؛ الطائرة. كان البائع قد مدّ جميع الطائرات ببطارياتها، وأطلق العنان لتضيء وتتحرّك أمام المارة.. وصوته الواثق ينادي: "طيارة المقاومة الفلسطينيّة يا عمّ، فرّح ابنك بطيارة الأبابيل..." وكأنّها هناك، في القدس!

المكان ينبِض حبًا وإنسانية، الطريق لوحده درس من دروس الاستمرار، أصوات الحياة من حولك تُشهدك ما لم تشهد به من قبل، إنّ الأوطان كما الرّجال، صناعة وحرفيّة. وسرعان ما تتمنى أن تلجأ إلى هذا الضجيج أو أن تصير مفردة من مفرداته.

يختم السّوق أبواب المسجد الأقصى المبارك، نافذةٌ مُقوّسةُ الشكل طولها أربعة أمتار تنقلك من هيبة السّكان والمارة إلى عوالم متداخلة من ألوهيّة المكان وما أبدعته العصور الإسلامية السالفة. تطلّ على الأبواب والأسوار والبلاط والنّقوش النائمة في الحجر سنين عددًا، وتلحظ في الأفق جمالًا لم تره عين روحك، كأنّه الوحي تنزّل على شقّ قلبك وقال سبّح باسم ربِّ من عرّج وأسرى.

كيف تدخل الحرم القدسي وزادك قلب واحد! يعلق كالحمام الذي اهتدى بين قبضات النّوافذ ويستقرّ في مستقرّ الرّخام المنثور على كل جانب، يفلت منك كأنّه طفل تحرر من قبضة الأرض وصار إلى درب طائرات الورق. الشّجر والحجر، التراب والبلاط، سبل الماء وحلقات الوضوء، كلّها تُنادي القلب بما نوى. في كلّ مرة تدخل الحرم ستكون كأنّك دخلته أول مرة، من اللّظى إلى البرد والسّلام، من الوحدة الموحشة إلى الأنس الوجداني، من السّراب إلى الاهتداء ... فيها فقط يتحقق التّلاحم الذي يحيلك من سكرة الحياة نحو يقظتها.

تستقر القبّة الذهبية موضع قلب الحرم القدسيّ، تعكف حيث تقودك الأدراج إليها متلهفًا خافقًا من رهبة النّور الوّهاج الذي تلخّص في قبّتها، أما هيكلها الجاثم بثقة التاريخ والعراقة، بنحو الإبداع والفنّ والروعة، بحروف من اللا لغة، اللا مثيل واللا مكان، يعيدك إلى سواعد الأنبياء وأنفاسهم. قبّة الصّخرة هي أقدس النسّاء في عوالم الأماكن، مثلما عرفت فلسطين مريم العذراء ومسيحها عليهما السّلام؛ عرفت قبّة الصخرة المُباركة التي انتبذت بالأقصى بلادًا مُقدّسة، بعراقة نقوشها ودقّة نسج قلبها وقالبها اللذين يقنعانك بأنّ المسجد الأقصى هو مسيحها لا محالة.

أمام عذرية المكان تتراءى للعاكفين هاجر قذف بها عزلاء وطفلها إلى أرض القداسة، تبحث عما يئد العطش بين صفا الأسوار ورُحمى الباحات، الرّخام هناك لدماء الشّهداء، والآيات الذّبيحة على الجدران تناجي الأعمدة أن تضرب في العمق والصّمود سطورًا تعيد إلى التاريخِ نصفه المفقود.

في المكان أطفال يلعبون بين الشّجر والجدران والأعمدة، ينقسمون إلى فريقين؛ فريق عتاده الحجر وآخر يحمل بنادق بلاستيكيّة، وهم حسب قواعد اللعبة جنود الاحتلال. أما فريق الحجارة فترشدك عباراتهم أنّهم فلذات الوطن ... وتعلو الصّرخة: " نحن رجال القدس..." فتشرذم الجنود مدحورين!

(فلسطين)

المساهمون