ربيعُ الكُتَّاب لم يُزهر في طنجة

ربيعُ الكُتَّاب لم يُزهر في طنجة

28 يونيو 2018
+ الخط -
لم يكن مفاجئاً ما حدث في مؤتمر اتحاد كتاب المغرب أخيرا في طنجة، ليس فقط بسبب التصدّعات غير المسبوقة التي رافقت المكتب التنفيذي المنتهية ولايته، ولكن، أيضا، بسبب عجز الاتحاد عن بلورة خطاب ثقافي جديد، أكثر قدرة على استيعاب المتغيرات الحاصلة، خصوصا في ما يتعلق بالديمقراطية، رؤيةً وأسلوب عمل كفيلاً بتجديد هياكله، وإعطائها نفسا تنظيميا جديدا.
كان واضحا، منذ البداية، أن هناك ثلاثة أطياف داخل كتلة المؤتمرين: القيادة الحالية (المكتب التنفيذي) المنتهية ولايتها القانونية منذ ثلاث سنوات، ''المعارضة'' التي يمثلها كتاب معروفون بقربهم من اليسار الإصلاحي (الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية تحديدا)، وتيار ثالث متنوع المشارب وغير منسجم، ولا يمتلك رؤية واضحة وعملية للتغيير.
كانت ''المعارضة'' تدرك، بحسها الحِزبي، أن المؤتمر إذا انطلق في ظروف عادية، فإن القيادة الحالية ستحسم المعركة لصالحها. كانت استراتيجية ''المعارضة'' واضحة: تعطيل انطلاق المؤتمر، وإحداث فوضى عارمة داخل القاعة، وفرز أزمة تنظيمية كبرى، تفضي إلى فرض ميزان قوى جديد، يجعل الرئيس يرضخ ويقبل بالتفاوض مع من يمثلها. وكذلك كان، حيث توصل الطرفان، بعد مفاوضاتٍ ليليةٍ، إلى تسويةٍ مريبةٍ، لا تزال خيوطها غير معروفة. ولعل النقطة الأكثر سوادا في افتتاح المؤتمر كانت إجهاض تكريم الاتحاد عددا من كتابه المخضرمين، خصوصا في حضور ضيوف ودبلوماسيين حضروا بدعوة من الاتحاد.
منذ منتصف السبعينيات، ظل اتحاد كتاب المغرب أبرز واجهة ثقافيةٍ للمعارضة، المتحدرة من 
الحركة الوطنية، في صراعها مع السلطة. وعلى الرغم من استقلاله النسبي عن الأحزاب، فإن المكاتب التنفيذية (المركزية سابقا) كانت تتشكل وفق توازناتٍ حزبيةٍ متوافق عليها. شكل هذا الوضع السمة الأساسية في هيكلة الاتحاد. وعلى الرغم من الانفتاح التنظيمي على الحساسيات الجديدة التي اقتحمت الثقافة المغربية مع بداية الثمانينيات، إلا أن ذلك لم يؤثر على غلبة طيف اليسار الإصلاحي على الاتحاد، طوال الثمانينيات والتسعينيات.
كان هذا الوضع جزءاً من السياق الإيديولوجي والفكري العام الذي طبع النصف الثاني من القرن العشرين، في ظل نزوع اليسار، بمختلف تنويعاته، إلى توظيف الثقافة، باعتبارها حقل سلطة مضادا في مواجهة أنظمة الحكم المختلفة، وما كان لاتحاد كتاب المغرب أن يشذّ عن هذه القاعدة، خصوصا مع وجود يسار مغربي على قدر لا يستهان به من الحيوية والفاعلية.
بيد أن التوافقات التي عرفتها السياسة المغربية في منتصف التسعينيات ألقت بظلالها على هذه المعادلة، وبدا أن التغطية الرمزية التي كان يستمدها الاتحاد من المعارضة بدأت تتبدّد، في ضوء مياه كثيرة جرت تحت جسور السياسة والاجتماع المغربيين. وفي الوقت الذي كانت تتم فيه عملية إدماج كبرى لنخب اليسار الإصلاحي في مختلف مؤسسات السلطة، بعد قبوله قيادة حكومة التناوب سنة 1998، كان الاتحاد يشارف على نهاية مرحلة من تاريخه، من دون أن تتبلور لديه رؤية ثقافية وتنظيمية متماسكة، تشتبك بالمتغيرات الحاصلة وطنيا وعالميا، لا سيما أن قطاعا واسعا من الكتّاب الجدد الوافدين إليه لم يُعرف لهم يوما انتماء حزبي أو نقابي. وتنبئنا سوسيولوجيا المنظمات أنه بقدر ما يتزايد عجز الأخيرة عن تجديد هياكلها، بقدر ما تتراجع فعاليتها التنظيمية، وتخفق، بالتالي، في تدبير حاجيات أعضائها وتطلعهم إلى التغيير. ينطبق هذا، بشكل كبير، على اتحاد كتاب المغرب الذي لم يعد، كمنظمة ثقافية، قادرا على استيعاب المتغيرات، والاستجابة لتطلعات كتابٍ تتنوع خلفياتهم السوسيومهنية، وخياراتهم الفكرية والجمالية والأدبية.
ما حدث في مؤتمر طنجة تحصيل حاصل لهذا العجز المريع عن مواكبة الواقع، وفهم تحولاته المتداخلة، وليست الأزمة الحالية إلا نتيجة طبيعية لغياب التدبير الديمقراطي عن الاتحاد سنوات طويلة. هذا الغياب لم يُنتج، فقط، شلليةً تنظيمية، بل أفرز نخبا ثقافية استطاعت أن تراكم، انطلاقا من مواقعها الحزبية والنقابية، رأسمالا يتغذّى على التقليد (الولاءات الحزبية والشخصية..) في تناقضٍ صارخ مع خطابها عن التحديث والديمقراطية.
مؤكد أن الكُتاب الذين حضروا إلى طنجة أهدروا وقتهم وأعصابهم في ملاسنات ومهاترات عقيمة، كان يمكن أن يُستعاض عنها بنقاش مفتوح ومنتج، لو كان الاتحاد راكم حدا أدنى من الديمقراطية التي تسمح بإدارة هذه الأزمة غير المسبوقة.
أشياء كثيرة شهدتها قاعة العروض في مركز أحمد بوكماخ في طنجة، وكانت تحتاج عينا ثالثة 
لفكّ رموزها، وفهم مراميها البعيدة التي لا علاقة لها بما هو ثقافي، بقدر ما لها علاقة بتحولات التنخيب والقرب من السلطة، والذي بات للمثقفين والكتاب حضورٌ ملحوظٌ فيه، من خلال تمثيلية الاتحاد في مجالس استشارية، مثل المجلس الوطني للصحافة، والمجلس الوطني للغات والثقافة، وبالتالي، فإن ما حدث لم يكن أكثر من مواجهة مفتوحة بين طرفين بشأن مكاسب مادية ورمزية أصبحت تتيحها هذه التمثيلية.
ليست المنظمات الثقافية خالدة بالضرورة، حيث لا تنفصل عن المتغيرات الحاصلة حولها، واستمرارُ الوضع على ما هو عليه داخل اتحاد كتاب المغرب سيحوله جثةً هامدةً، يصبح النفخُ فيها محاولةً يائسة ليس إلا. من هنا، تبدو الحاجة ملحةً اليوم إلى ربيعٍ يجتاح الاتحاد، ويبعث روحا جديدة في هياكله المتداعية بدمقرطة أساليب عمله وتحديثها، وفتح المجال أمام الكتاب، بمختلف حساسياتهم، للإسهام في إحداث نقلةٍ نوعيةٍ في مساره، بعيدا عن الحسابات الشخصية والحزبية الضيقة.
قد لا يختلف كثيرا حال اتحاد كتاب المغرب عن غيره من اتحادات الكتاب وروابطهم في بلدان عربية أخرى، الأمر الذي يكشف أزمة النخب الثقافية العربية، وتخلفها عن مسايرة إيقاع التحولات التي يعرفها الواقع، لا سيما بعد منعرج الربيع العربي، بما أحدثه من ارتجاجاتٍ غير مسبوقةٍ في المنطقة.