دبلوماسية الهواة وأخطاء قاتلة

دبلوماسية الهواة وأخطاء قاتلة

24 يونيو 2015
+ الخط -
أظهرت الأحداث الأخيرة، المرتبطة بخطف رعايا ودبلوماسيين تونسيين في طرابلس، والتي انتهت بغلق القنصلية التونسية هناك، أن الدبلوماسية التونسية تعيش في حيرة وتعثر دائمين، وهي بصدد نسج إخفاقات متتالية، نحن في غنى عنها، وأنها لم تجد بعدُ طريقها إلى المواقف المثلى المتماهية مع الحفاظ على مصالح تونس. ويبدو أن خروج وزراء الخارجية، ما بعد الثورة، من عباءة سلطة الرئيس، الحاكم الوحيد والأوحد، جعل قرارتهم رهناً لشخصياتهم المثيرة للجدل، ولانخراطهم في تجاذبات إقليمية وحزبية، لا مبرر لها.
تعاقب على وزارة الخارجية، منذ الاستقلال، 26 وزيرا، تسعة في عهد الحكم البورقيبي الذي امتد ثلاثين سنة (من 1957 إلى سنة 1987)، و11 في العهد النوفمبري الذي شارف على الأربع والعشرين سنة (1987 إلى 2011) و6 وزراء في حقبة ما بعد الثورة (4 سنوات). والملاحظ أنه كلما ابتعدنا عن تاريخ الاستقلال تقلصت مدة الوزراء، فهي وزير لأكثر من 3 سنوات في العهد البورقيبي، ووزير لأكثر من السنتين في العهد النوفمبري ووزير لكل ستة أشهر بعد الثورة، ما يوحي بتذبذب وعدم استقرار الخارجية التونسية، ارتباطا بالزمن السياسي الذي تعيشه.
في الزمن البورقيبي، كانت وزارة الخارجية أكثر استقرارا نتيجة لعاملين، الأول أن بورقيبة كان المقرر الوحيد لسياسات تونس، الداخلية والخارجية، وما الوزير إلا همزة وصل ومنفذا لقرارات الرئيس. والثاني أن المهمة الأساسية الموكلة إلى الوزير آنذاك هي التعريف بتونس المستقلة حديثاً لدى المنظمات الدولية والإقليمية وإنشاء السفارات، حتى أن هيكلة وضبط مشمولات الوزارة جاء، أخيراً، في 20 أكتوبر/تشرين أول 1984، ضمن الأمر عدد 1242.
وفي العهد النوفمبري، الذي بدأ بمأساة ذبح الاسلاميين وتشريدهم، واصل وزير الخارجية عمله موظفاً لدى رئيس الجمهورية، لكن التكليف تحوّل إلى مراقبة المعارضين، وتحويل السفارات والقنصليات إلى أوكار تجسّس على كل مشتبه به وملاحقته، كما تحوّل العمل الديبلوماسي إلى أداة لتلميع النظام وتحسين صورته أمام الرأي العام العالمي، بشراء ذمم بعض الصحافيين.
وأمّا ما بعد 2011، أي بعد الثورة، فقد تحوّل المشهد كليّاً، وبطريقة متسارعة تسارع الأحداث السياسية والتحولات التي تشهدها تونس ومناطق الربيع العربي. واكتشفنا مع هذه التحولات أن ديبلوماسيتنا ليست سوى ديبلوماسية الهواة، أخطاؤها أكثر من إنجازاتها، وتميزت بثلاثة أخطاء قاتلة، إن لم يتمّ تداركها في الحين. 
الأول، ارتهان وزراء الخارجية إلى محاور استقطاب إقليمية ودولية، من دون اعتبار لمصالح تونس الاستراتيجية ولمصالح رعاياها. فالطيب البكوش أعلن اصطفافه إلى محور القضاء على الثورات العربية، والاستثمار في بقايا النظم القديمة، فأراد ربط الصلة مع نظام بشار الأسد مجدداً، من دون الأخذ بالاعتبار أن أغلب التونسيين في سورية موجودون تحت سلطة أعداء بشار، كما عادى ميلشيات فجر ليبيا من أجل ميليشيات خليفة حفتر، وتناسى أنه من صرّح أن ثلاثة أرباع الجالية التونسية المقيمة في ليبيا موجودة في طرابلس، كما ادعى على تركيا بادّعاء أخرق لا يرتكبه تلميذ بالتعليم الابتدائي، مع أن تركيا مدّت يدها بمساعدات خيالية لتونس، وكان الأجدر مجاملتها، وإن لا يتفق معها.
الثاني، ارتهان الوزراء إلى أحزابهم وإيديولوجياتهم. فالوزير الحامدي، على الرغم من أداءئه الذي كان متوازناً، إلا أنه كان غير مدعوم من أي طرف حزبي، فلم يظهر من عمله لا الصالح ولا الطالح، وأما البكوش فكان صدامياً، حتى في حزبه "نداء تونس"، ما أثر على تصنيفه داخل تونس وخارجها، واعتبر وزيراً لصنف واحد من التونسيين.
أمّا الخطأ الثالث، فمرتبط بشخصية الوزراء في حدّ ذاتهم، فظهر ونيّس كأنه مصاب "بالزهايمر"، وأبدا أن اقصى أمنياته الجلوس والحديث مع وزيرة الخارجية الفرنسية، ميشال اليو ماري، التي عادت الثورة التونسية جهاراً، ما عجّل بسقوطه سريعا، وظهر رفيق عبد السلام كالطفل المدلل، نسيب رئيس أكبر حزب في تونس، الذي أوقعه أعداؤه في فضيحة لا يد له فيها ولا ساق، وبدا البكوش متناقضا، مرّة كأنه الرجل المتصلّب الذي لا ينفع معه حوار ولا نقاش، ومرّة كالمغفل الذي انطلت عليه كذبة "تأشيرة الجهاد" التي تمنحها تركيا، فرددها من دون تمحيص.
ما قبل الثورة كان وزراء الخارجية في تونس مجرّد موظفين مكلفين بمهمة لدى رئيس الجمهورية، وما بعدها تدخل الاصطفاف الإقليمي والدولي والانتماء الحزبي إلى اختيارهم، وزادت شخصياتهم المتقلبة والمزاجية إلى اعتبار أن دبلوماسيتنا فضاء للهواة والأزمات بأخطائهم المتكررة، وحتما سيوقعوننا في متاهاتٍ لا نخرج منها سالمين، خصوصاً في المسألة الليبية.
محجوب قاهري
محجوب قاهري
محجوب أحمد قاهري
طبيب وناشط في المجتمع المدني، يكتب المقالات في عدد من المواقع في محاولة لصناعة محتوى جاد ورصين.
محجوب أحمد قاهري