خواطر مشوشة عن الإحساس بالنهاية (1 من 2)

خواطر مشوشة عن الإحساس بالنهاية (1 من 2)

29 ديسمبر 2019
+ الخط -

اقتربت من الموت مرتين في 2019، مرة في نصفه الثاني، حين تعرضت للتسمم بسبب طبق سلطة مشكوك في محتوياته، مع أنه كان يبدو بريئاً وصحياً، ومرة في نصفه الأول حين حضرت أقوى زلزال شهدته مدينة لوس أنجلوس منذ عقود، كنت وقتها في حمام غرفتي بالفندق التي تقع في دوره السادس، وظللت أتأرجح لثوانٍ ظننتها دقائق، متمنياً من الله تعالى أن يتيح لي وقتاً أطول، لكي أكمل ارتداء ملابسي ثم أتوضأ وأصلي ركعتين، وأتصل بزوجتي وبناتي وأمي، ثم ليأتِ الموت بعدها إن أراد.

لم تكن التجربتان أخطر تجارب الاقتراب من الموت بالنسبة لي، على الأقل حتى الآن، لكنهما تركتا أثراً عميقاً بداخلي، لأنني كنت أصغر بكثير حين شهدت تجارب سابقة أشد خطورة، بالطبع ليس هناك كبير على الموت مهما كان صغير السن، لكن إحساسك بالشباب وصغر السن يجعل مخاوفك من الموت أبعد، ولذلك يصيبنا الذهول حين يختطف الموت صغار السن، لأننا نشعر أنهم لا زالوا في فترة السماح التي يجب أن لا يجور عليها القدر.

ولأنني أكملت الخامسة والأربعين من العمر هذا العام، فقد أصبحت أضبط نفسي منشغلاً أكثر من اللازم، بالتساؤل عما إذا كان المتبقي لي من العمر نظرياً 15 عاماً فقط، أم سأكون محظوظاً بمساعدة كريمة من الجينات ليتبقى لي 25 عاماً، وحين يرد على خاطري أحياناً تساؤل عما إذا كنت سأعيش حتى أبلغ الثمانين من العمر، أسخر من خاطري وأتذكر قول الشاعر العربي القديم: "إن الثمانين وبُلّغتها.. قد أحوجت سمعي إلى ترجمان"، وأقول لنفسي إن ذلك الشاعر كان يشكو من متاعب السمع في الثمانين، وهو من جيل السمنة البلدي وحليب النوق وربما بول الإبل، فكيف سيكون حالي بعد أن فعلت الأغذية المحفوظة والمصنّعة والرديئة والمضادات الحيوية بجسمي الأفاعيل؟ 

لم يكن ما شهدته في لوس أنجلوس زلزالاً واحداً، بل زلزالين متعاقبين وعدداً من التوابع بينهما، وربما كنت أكثر شخص في المدينة تعامل معهما بذعر، لأن هاجساً استبد بي قبل السفر، وظل يلح علي أن شيئاً ما سيحدث لي في هذه الرحلة، فأصررت على أن أكتب وصية جديدة، وأبعثها لأعز أصدقائي، ليأخذ باله من أسرتي إن جرى لي شيئ، وحين استغرب أنني أفعل ذلك لأول مرة، طلبت منه ألا يسألني عن أي تفسيرات، لأن الهواجس لا تُفسّر، بل تُحتمل ويُطبطَب عليها حتى تزول، أو يتضح بلاهتها. كانت تلك ثاني وصية أكتبها في حياتي، لأن الوصية الأولى لم يعد الوصول إليها ممكناً، لأن صديقي عصام سلطان المحامي القدير، الذي تستقر الوصية في درج مكتبه، يقبع وحيداً مظلوماً في سجن العقرب منذ سنوات لا يعلم إلا الله متى ستنتهي؟ ولذلك لم أعد مشغولاً بالوصية وبما لم أعد أذكره من تفاصيلها، قدر انشغالي بأن يجمع الله شمل عصام بزوجته وأبنائه، ويشفيه من أمراضه التي أصابها به الظلم الفاجر؟ 

حين توقفت أرضية الفندق عن التأرجح بعد الزلزال الأول، سارعت إلى الخروج من الغرفة خوفاً من التوابع القادمة، لم أجد أحداً في الفندق في حالة ذعر إلا أنا وبعض السواح القادمين إليها لأول مرة، تخيلت أن حالة الهدوء المسيطرة على العاملين في الفندق نتاج لتدريب طويل، وأكبرت فيهم ذلك، لكني وجدت حالة الهدوء مسيطرة على المارة في الشارع، وعلى الجالسين في مقهى الفندق المكشوف الذي اخترت الجلوس عليه، لأن وقوع المظلة على رأسي سيكون أرحم من وقوع سقف الحجرة، وذكّرني هدوءهم المستفز، بحالة الضحك الهستيري التي انتابتني أنا وزملائي في كلية الإعلام بجامعة القاهرة، حين وقع زلزال أكتوبر عام 1992، ونحن جالسون في المدرّج، نتلقى محاضرة في الكمبيوتر، وحين اهتزت أرض المدرج بقوة رهيبة، فكرنا أن المبنى الذي يقع فيه المدرج سيقع بنا، وكان رد الفعل الهستيري لدكتور الكمبيوتر هو ما أضحكنا، لأنه كان يبدو لنا وقوراً أكثر من اللازم، وقد فسّر لنا البعض ذعره الشديد فيما بعد بأنه سافر إلى اليابان من قبل، وحضر فيها زلزالاً مروعاً، ولذلك أصابه الذعر، أما نحن فإن حضور تجربة الزلزال لأول مرة، وعدم فهمنا لطبيعتها، جعلنا نتعامل مع الموقف بهدوء، حتى أننا عندما أخلينا المدرج وخرجنا من المبنى، لم تحدث بيننا حالات تدافع، وظللنا واقفين خارجه، حتى جاء أمر من إدارة الكلية بإلغاء بقية المحاضرات، ليتاح للطلبة الذهاب للاطمئنان على أسرهم، لنعرف من تلك الصيغة أن شيئاً كبيراً قد حدث.

 

في اليوم التالي أصبح الزلزال أقرب إلينا، حين عرفنا أن زميلة لنا فقدت أسرتها في عمارة هليوبوليس المنهارة، التي أصبحت الصحافة تسميها "عمارة الحاجة كاملة" نسبة إلى مالكتها التي تم اتهامها بالتواطؤ مع المقاول وإدارة الحي في بناء العمارة بشكل مخالف للمواصفات، ثم أصبحنا نعرفها بعد ذلك بعمارة أكثم، نسبة إلى الناجي الذي وجد تحت أنقاضه، وأصبح أشهر رجل في مصر يومها، بعد أن نشرت جميع الصحف ونشرات الأخبار صورته وهو يخرج من تحت أنقاض تلك العمارة، لينساه الجميع بعد فترة من الانشغال بالحديث عن فساد المحليات ورشاوى مهندسي الأحياء وغياب الضمير، ومع مرور الوقت أصبح ما يتذكره الذين حضروا الزلزال مرتبطاً بذكرياتهم الشخصية المريرة أو المضحكة، بالإضافة إلى بعض الإرشادات التي حفظوها من التلفزيون عن طريقة التعامل مع الزلزال، وكان ما بقي منها في ذاكرتي هو أهمية البقاء تحت ترابيزة أو مكتب لحظة وقوع الزلزال، ولذلك قررت بعد أول تابع شعرت به أن أنام تحت المكتب الموجود في الغرفة. 

وقع الزلزال الثاني وأنا في مطار لوس أنجلوس، أنتظر عودتي إلى نيويورك، وحين رأى جاري في صالة الانتظار رد فعلي المرتعب والمختلف عن أغلب من حولي، أخذ يشرح لي بوقار يليق بأعوامه السبعين، أن لوس أنجلوس استعدت منذ عقود للزلازل، بعد تجاربها السيئة معه، وأن البيوت القديمة الموجودة في الضواحي، هي التي تتضرر أكثر من العمارات الحديثة العالية، وأن ما يجب أن أقلق منه هو ألا يحدث تشققات في بعض طرق المطار، فيتم تأجيل إقلاع وهبوط الطائرات، وأنه لا يعلم ما الذي كنت أدعو به منذ قليل، لكنه يتمنى أن أدعو وأنا بهذا التركيز، ألا نضطر للبقاء أطول في المطار، لأنه لا يكره شيئاً مثل تجربة البقاء في المطارات. 

لم يغمض لي جفن طيلة الساعات الست التي قطعتها الطائرة من لوس أنجلوس إلى نيويورك، ليس لأنني ظللت أحمد الله على سلامتي من تجربة الزلزال، التي كانت مختلفة تماماً عن تجربة زلزال 92، وليس لأنني ظللت أدعو الله أن ينجيني من تجربة الطيران التي أصبحت أخاف منها في السنين الأخيرة بشكل أكبر، بل لأنني أخذت أعيد ترتيب ما يجب أن أفعله قبل نهاية العام، وأضع تصوراً جديداً لما يجب أن أفعله قبل أن أصل إلى الخمسين، ثم ما يجب أن أفعله قبل أن أصل إلى الستين، تاركاً التفكير فيما يجب أن أفعله لو تجاوزت الستين إلى حينه إن عشت وكان لي عمر. 

كانت المرة الأولى التي وضعت فيها خطة عمل لنفسي، في نهاية عام 1994، كنت مفتوناً وقتها بتجربة نجيب محفوظ في تنظيم وقته بشكل صارم، ولأنني كنت قد بدأت العمل في الصحافة في نفس العام، وأصبحت أجد صعوبة في التوفيق بين الوقت المخصص للدراسة والوقت المخصص للعمل، قررت أن أبدأ في تنظيم وقتي، بأن أضع في نهاية كل عام كشف حساب لما قمت به طيلة العام، وأرفقه بتصور لما يجب أن أفعله في العام المقبل، لأحاسب نفسي عليه في نهايته، لم تكن تلك الفكرة اللامعة متناسبة مع واقعي الصعب وقتها، لكنني تحمست لها بشدة، خاصة أن أول مهمة عزمت على إنجازها، هي الخروج من الغرفة الحقيرة التي كنت أسكنها قبل نهاية عام 1995، وهو ما لم يتحقق للأسف، فقد ظللت فيها حتى مطلع 1997، وربما لذلك أقلعت مع نهاية عام 1996 عن كتابة كشف حسابي وما يلحق به من تصورات وأحلام، لأنني أصبت بالإحباط بعد أن فشلت في إنجاز مهمة كان ينبغي أن تكون سهلة جداً، مثل السكن في غرفة أكثر آدمية يمكن الانتظام في دفع إيجارها. 

ظللت طيلة السنين التالية، أعود إلى فكرة كشف الحساب وجدول الأولويات ثم أقلع عنها، أنساها في السنوات الصعبة التي تزيد فيها الإحباطات والخوازيق، وألتزم بها في السنوات اللطيفة التي تأخذ فيها الأحلام وضعها وتسيطر، لكنني منذ تجاوزت الأربعين قمت بتغيير جوهري، حين تنازلت عن مسألة كشف الحساب، والتزمت فقط بفكرة جدول الأولويات، ولم أعد أقوم بها بشكل سنوي، بل بشكل شهري، متسامحاً مع نفسي حين أكتشف مع نهاية كل شهر أنني لم أحقق أغلب ما كنت أتمناه، وأنني واصلت إضاعة وقتي في أشياء ليس لها جدوى، لكنني أكتشف في كل مرة أنني لو لم أوهم نفسي بأنني قادر على إلزامها بجدول عمل منظم، لما تمكنت من الإيفاء بأغلب التزاماتي، لكنني بعد ما عشته خلال هذا العام أصبحت أميل إلى عدم التسامح مع نفسي، وأتمنى أن أكون أكثر قوة وصرامة معها، لأنني أعرف أن النهاية لم تعد بعيدة نظرياً وعملياً، واضعاً نصب عيني مقولة يظنها البعض حديثاً نبوياً، وينسبها البعض للإمام علي: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً"، مع أنني في الغالب الأعم، أكتفي بالتركيز على النصف الأول من المقولة، ولا أظنني وحدي الذي يفعل ذلك.    

نكمل غداً بإذن الله. 

  

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.