حقوق وحريات بالتقسيط

حقوق وحريات بالتقسيط

22 سبتمبر 2014

في "رابعة" بعد فض الاعتصام عسكرياً (أغسطس/2013/أ.ف.ب)

+ الخط -

في أيام قليلة، شهدت مصر خطوات قضائية وتشريعية وإعلامية متوازية، تصب جميعاً في اتجاه تخفيف حدة الانتقادات الموجهة إليها، بشأن حالة الحريات وحقوق الإنسان والممارسة السياسية.
قضائياً، تم الإفراج عن مجموعة من المعارضين، تضم عشرات من طلاب الجامعات وبضعة نشطاء، بينهم علاء عبد الفتاح. تشريعياً، أعلنت الحكومة المصرية نيتها تعديل قانون التظاهر، بعد أن اعترفت، أخيراً، بوجود ثغرات فيه. إعلامياً، راح الإعلام المصري يطبل لهذين التطورين. ثم خرج عبد الفتاح السيسي في حواره مع وكالة أنباء "أسوشيتد برس" ليعلن قبول عودة "الإخوان المسلمين" إلى الحياة السياسية إذا نبذوا العنف.
لا شك في أن تزامن تلك الخطوات في هذا التوقيت يرتبط مباشرةً بارتفاع درجة الهجوم على مصر في الخارج، وقتامة الصورة لدى الإعلام الخارجي، فضلاً عن المنظمات الحقوقية، ما استلزم إيجاد مبادرات دفاعية، يرفعها السيسي في نيويورك، وهو يواجه مسيرات وتظاهرات مضادة، وإعلاماً يصعب التحكم فيه وتوجيهه، كما في مصر.
الجديد في هذه الانفراجة هو فقط توقيتها وتزامنها، فتلك الإجراءات كانت ستتخذ بالتدريج، في الوقت الراهن، أو لاحقاً، لكنها، في كل الأحوال، كانت ستتم. لاعتبارات أخرى تضاف إلى تجميل وجه السلطة الحاكمة في مصر أمام العالم، قبل أن يطير السيسي إلى نيويورك.
أهم تلك الاعتبارات، ضرورة تخفيف الاحتقان الداخلي، بعد أن وصلت الأمور إلى حد يصعب الاستمرار فيه. والسؤال المنطقي في هذه الحالة، لماذا كان التضييق والقمع إذا كان التأزم سيفضي في النهاية إلى تراجع؟ الإجابة، ببساطة، أنها استراتيجية مقصودة، وليست عملاً عشوائياً. أن تكثيف الضغوط إلى أقصى ما تتيحه المعطيات الداخلية والبيئة الخارجية. فيكون الحرمان من الحريات، ومنع كل صنوف الممارسة السياسية، وملاحقة جميع أشكال المعارضة، أشخاصاً وتنظيمات. لينخفض سقف التوقعات الإيجابية، حتى يقترب من الصفر، سواء لجهة حرية التعبير والحق في رفض السياسة المتبعة، أو حتى مجرد تصحيحها ونصح القائمين عليها. وهكذا، يصبح الطبيعي هو تغييب الحريات بأمر الحاكم بأمره، والاستثناء أن يتيحها إذا شاء، لمن يشاء. وحينئذٍ، له الشكر والحمد والثناء.
إنها نظرية تعطيش السوق في عالم التجارة، إخفاء السلعة ليزداد ثمنها وتصبح ندرتها هي الأصل، والحصول عليها فوزاً عظيماً. وثمة هدف آخر، هو أن يزهد ناس كثيرون فيها، مللاً من الانتظار، أو كللاً من الصراع عليها.
لكن، لأن المصريين دائماً مبدعون، فقد جمعت السلطة في مصر بين تعطيش السوق والتقسيط المريح، لكن على الطريقة المصرية. حيث يتم منح الحريات والحقوق بالتدريج على أقساط. فحتى لا تزدحم الساحة بالحقوق والحريات، ويعتبرها المواطنون والسياسيون حقاً مكتسباً، يتم تقسيطها على أجزاء ومراحل، تقسيطاً مريحاً للسلطة، ووفق حساباتها.
لذلك، لن يكون مستغرباً أن يتلو تلك الانفراجة الظاهرية تراجع سريع وإجراءات عكسية. حتى تستمر حالة التوتر والترقب والتطلع إلى الهبات والمنح السلطوية. فالإفراج عن عشرات المعتقلين لا يعني إطلاق آلاف آخرين، بل لا يضمن عدم اعتقالهم أنفسهم مجدداً. وبمنطق السلطة الحاكمة، لا دليل على نبذ "الإخوان" العنف، وبالتالي، يصير التلويح بدمجهم سياسياً سراباً.
التأرجح بين التفاؤل والإحباط يؤمن هدوءاً مطلوباً، قبل صدور الحكم في قضية القرن التي يحاكم فيها حسني مبارك ونجلاه. فالحكم الذي سيصدر بعد أيام سيكون، على الأرجح، بالبراءة، ولا بد من تثبيط همم التظاهر وكسر إرادة الاعتراض، حتى تنتهي المحاكمة، ويمر الحكم من دون تعكير لصفو البراءة المتوقعة.
وجود السيسي في نيويورك ومحاكمة مبارك، كلاهما ظرف عارض، ربما يفسر توقيت ذلك القسط من الحرية. لكن، تظل الدلالة أن هذا نهج ثابت وليس أمراً تكتيكياً. النظم الفاشية حين تريد إخماد أصوات مواطنيها، قبل معارضيها، تمنع الحقوق بالجملة، ثم تمنح منها ما تريد، بالتقسيط المريح.


 

58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.