حضن أمي ورفاتها

حضن أمي ورفاتها

16 ديسمبر 2014
لم يبق لأبيها سواها ولم يبق لها سواه(فرانس برس)
+ الخط -

انفجار مفاجئ. ومن بعده اختفى كلّ شيء. ولم يبق للصغيرة أحد على الإطلاق من أفراد عائلتها.

كانت عائشة بعمرها الذي لا يتجاوز عشرة أعوام، قبل لحظات قصيرة في منزل العائلة في بنّش في ريف إدلب. وكان البيت مليئاً. فمعها أمها وأختها، وقريبة التجأت إليهم مع أطفالها الثلاثة.

لكنّها لحظة رعب مفاجئة دكت المنزل على رؤوس من فيه، بإحدى قذائف النظام السوري. لم تتمكن عائشة من استيعاب ما جرى. ولم تر سوى سواد تبعته غيمة بيضاء، فيما ارتج جسدها بقوة. وحين غابت عن العالم لزمن لا يمكنها تحديده، تبدلت حياتها بالكامل، وباتت يتيمة الأم، ولا أخت لها.

تحت الركام، استيقظت عائشة من غيبوبتها القصيرة. بدأت تستنجد بأمها لتخرجها، ولم يأتها أيّ جواب. رفعت الطفلة رأسها بصعوبة. نظرت من حولها فرأت رأسين لم تتبين ملامحهما، شعرت أنّها رفات أمها. لم يخطئ إحساسها، فقد كانت بقايا جسد الوالدة قربها. لكنّه لم يحتضنها ولم يستجب لصرخاتها المرتعبة.

في الحيّ تجمّع الرجال بعد الانفجار، وبدأوا يبحثون بين الأنقاض. لم يجدوا أحداً على قيد الحياة. لكن، بعد فترة سمعوا صراخ طفلة. اندفعوا تجاه الصوت وانتشلوا عائشة.

في الوقت الذي أمضته تحت الركام، استمرت عائشة في الصراخ لأمها. كانت تسمع بعض الأصوات. لكنّ الأصوات كانت كما لو أنّها آتية من قعر بئر عميقة. وعندما سمعت صوتاً أقرب، ارتفع صوتها أكثر طالبة النجدة. لم يسمعها أحد في البداية، لكن بعد برهة، سمعها رجل وتمكن من تحديد مكانها. عندها هبّ رجال الحي لإزالة الركام من فوقها، وإنقاذها.

انتشلوها حية من تحت الأنقاض. أما هي فلم تتوقف عن الصراخ طالبة أمها، حتى بعد نقلها إلى المستشفى.

هناك لم تصدق والدها عندما قال لها إنّ أمها نجت من الانفجار، وتمكنت من القفز من شرفة المنزل. فقد كانت على يقين أنّ الرفات تحت الركام كانت لأمها.

في تلك اللحظة، بدأت مرحلة جديدة من حياة الطفلة. فهي لم تعد طفلة بعد موت أمها وشقيقتها. ورغم أنّها تبلغ عشر سنوات فقط، فقد شعرت أنّ طفولتها المسلوبة في ذلك اليوم، من المستحيل أن تعود.

ترك رحيل الأم والشقيقة والجارة مع أطفالها الثلاثة، لدى عائشة فراغاً موجعاً سيلازمها طويلاً مع والدها المكسور القلب والروح.

هو يستحضر أم عائشة كلّ يوم، منذ لحظة رحيلها. ويعيد إحياء ذكرياتهما معاً، فيعيش حياته برفقة طيفها وملامحها. لم يصدق بدوره، ما جرى ذلك اليوم. فكأنّ الأمر بأكمله، مجرد حلم قاس، سينتهي قريباً. يستعيد الكلام الكثير حول تلك اللحظات. منه أنّ القذيفة دخلت من الباب فقتلت زوجته وابنته وزوجة ابن خالته وأولادها الثلاثة. يستعيد المشهد. يرى أناساً يدخلون، وآخرين يصرخون. يشعر أنّه يشاهد فيلم رعب. يرى دماً وأشلاء متناثرة. ويسأل نفسه: هل أنا أحلم.. هل كنت أحلم؟ يخفض صوته ويطرق طويلاً. كأنّ اللحظات الدموية لم تنته، وكأنّ الكابوس ما زال يدور. يرى زوجته كلّ يوم. تعيش معه وتحرق قلبه برحيلها الواقع. وليس يدري ما الذي بإمكانه فعله.

حاول الأب إعادة إعمار البيت. فهو رفض المغادرة. لكنّه في كثير من الأحيان يضعف أمام الذكريات. ويجد نفسه يمقت كلّ شيء. صار يكره الجدران التي تذكّره أنّ زوجته وطفلته كانتا هنا. وهنا ضحكوا معاً، وأكلوا معاً. وفجأة لم يعد يجد زوجته متقدمة إليه بفنجان القهوة لتجلس معه. كانت حياتهم، ببساطة، رائعة. وضاع كل شيء. ولم يعد بإمكانه الإحساس بقلبه حتى. لقد احترق القلب وتفحم.

ومع ذلك يستمر الأب رغم مصابه. الذكريات تحطمه، وفي الوقت عينه تحركه إلى الأمام. وتستمر معه عائشة، طفلته التي كبرت قبل أوانها. كبرت بالمصيبة والألم، وسط غيرها من مآسي الحرب في سورية.

كثير من مآسي الحرب

ليس قلب والد عائشة المحترق حالة فريدة في سورية، وليست مأساته هو وابنته غريبة في أيامنا هذه. تسقط كل يوم مئات القذائف، والبراميل المتفجرة من طائرات النظام، لتهدم مئات البيوت السورية فوق رؤوس ساكنيها. يموت من يموت، ويحترق قلب الآخرين على أحبابهم، ليتابعوا ما يشبه الحياة بأرواح ثقبها رصاص الحرب. لكنّ السؤال الأقسى: كيف للعالم أن يواجه دموع عائشة ومن مثلها؟