حرّاسُ الأخلاق

حرّاسُ الأخلاق

04 يونيو 2016
+ الخط -
كنتُ قد قرأت بعض ما كتب عن الرواية التونسية "انتصاب أسود" لكاتبها أيمن الدبوسي، وشدّني بعض ما جاء فيها، والذي يشبه كثيرا الهجوم، لتتهم بأنها رواية بورنوغرافية. وقد فتح هذا الاتهام شهية بعض الأقلام للتنكيل بالرواية وصاحبها، لأقرأ فيما قرأت مصطلحاً بدا لي غريباً ومضحكاً، وهو "الأدب النظيف".
قرأت الرواية في وقت سابق، ولن أنكر أنني صدمتُ بها، لكن صدمتي سرعان ما ذهبت، لأن اللغة التي وجدتها لم تكن غريبة عني، وليست بمسقطة من علو أو غريبة عن اللغة التي نسمعها يومياً في شوارعنا، أي أنَّ مادة الرواية هي من أصلِ المكان، وأن المعالجة تختلف، فهناكَ من يكاشف الأمور على حقيقتها، وهناك من يلتف عليها التفافاً، تخلصاً من الرقيب الاجتماعي في الدرجة الأولى.
لا يعنيني صراحة إن كان كاتب الرواية أراد أن يكتب رواية بورنوغرافية، أو أنها طريقة معالجة كتلك التي يستعملها الأطباء النفسيون لمعالجة أمراض، مع العلم أن الأدب يتلاقى مع المعالجة النفسية، من حيث هو محاولة تصويب لما هو أعوج. وفي الحالتين، حسب قراءتي، استطاع الدبوسي أن يكتب رواية بورنوغرافية بلغة سلسة وبدلالات مكثفة، مؤرخاً لمرحلة، تدغدغ عقل القارئ سؤالاً وحباً بالمعرفة والمرحلة تاريخياً: مرحلة الثورة التونسية، كما لا بد لي أن أشير أني أخذتُ الرواية من باب المثال لا الحصر، وكذلكَ للاستفادة من وجودها في دائرة الضوء والهجوم، وتعرية الشارع خارج "الطهرانية" التي يصرُّ بعض سدنة الأخلاق على تركها مخبوءة، ويتم التحدث عنها كمسكوتات.
تسألتُ بيني وبين نفسي، إذا كانت اللغة التي تضمنتها الرواية هي اللغة التي تكاد تكون راسخة في الشارع التونسي، ولمّا قفزت وأوجدت لنفسها شكلاً روائيا أصبحت تهمة وتجديفاً وخرقاً للنظمِ المتبّعةِ، للحيلولة دونَ كشفِ الأمراض، بل المحاولة لتركها نائمة، من دون وعي أن ذلك الظهور لو تأخرَّ أكثر قد يسبّب عللاً وعقداً نفسية، سيصعبُ على المحلل النفسي حلّها فيما لو تراكمت.
تبدو الإجابة قريبة جداً، وليست عصيّة على أحَد، العادي أو المتخصص. تتميز المجتمعات العربية من دون استثناء بطابعها الرقابي المهيمن، الخائف من كلِّ شيء، وكل شيء مؤامرة، بحسب ما تروّجهُ أنظمة الحكم لحماية نفسها وإيهام مواطنها كذلك ليكونَ معها وبقناعة!، بحيث يتبرع الإنسان العربي للعمل ضمن هذه الوظيفة، من دون أي مقابل، حتى أنه يشترك مع الرقيب السياسي، أو لنقل: إن الرقيب السياسي استغل هذه الصفة لصالحه، ليبقى المنجز الثقافي والمثقف وصاحب الفكر والرأي تحت سلطته.
اليوم، إذا ما عدنا إلى واقعنا ونظرنا في مشكلاتنا لوجدنا أننا كجمهور ساهمنا، بطريقةٍ ما، في محدودية دور المثقف، وابتعاده النسبي عن دوره مؤسساً لحياة اجتماعية وثقافية وسياسية ناجحة، ونسينا أن الكاتب، أو المثقف إجمالاً، ما هو إلا طبيبنا النفسي، وأننا نبوح على لسانه بأمراضنا، كي نجد طريقا ما للشفاء، غيرَ أن قتلنا له بهذه الطريقة ساهم في قتلنا.
نحن مجتمعات (عيب)، عيب أن تفعل كذا، وعيب أن تفعل هذا، إلى أن وصلَ الأمر إلى تجريم الجيد، فيما لو تعارض مع السياسي أو الاجتماعي أو الديني، خصوصاً إذا ارتبط الموضوع المطروح بأشخاص متنفذين، وكل في مجالهِ. لذلك، لا غرابة حين تتضخم مخاوفنا الاجتماعية، فنهاجم عملاً إبداعياً ونتهمه بالهرطقة أو التجديف أو تجاوز الحدود الشرعية، فقط لأنه تناول الظاهرة من داخلها وعرّاها، لتكونَ أمام مشرطِ المعالجِ أو في دائرة الضوء بوصفها علة، تستوجب علاجاً.
من هنا، ينصّب كثيرون أنفسهم مدافعين عن "الأخلاق الاجتماعية"، ويختارون منطق السب والكلام البذيء تجاه أصحاب العمل أكثر من نقد العمل نفسه، أو القيام بالفعل ومن جنس الفعل. والحقيقة أن الوصاية الاجتماعية تختلف تعاملاً من المنجز الإبداعي لمثقف "رجل" إلى المنجز الإبداعي للمثقفة، لتبدو أكثر حدية وسطوة على الأخيرة.
المرأة العربية المبدعة محاصرة، لا تكتب من دون استعمال الرمز أو التشفير، لنجد أن مواضيع كالجسد مثلا (وهنا لا أتحدث عن الجنس) الجسد باعتباره من عناصر الوجود الانساني، إذ يتم تناوله بكثير من المراعاة الاجتماعية والثقافية، انطلاقاً من النظرةِ القاصرة القائلة إن الجسد نقيصة ومدعاة للفتنة، هذا التجاهل أو هذه النظرة غير النزيهة يؤدي بالضرورة لتجاهل مواضيع أخرى متعلقة بالجسد، قد تكونُ أكثر فتكاً بالمجتمع من التي يحرص (حرّاس الأخلاق) عليها.
ولعل ما يزيد هذا النوع من الرقابة اتساعاً تنوع وسائل الاتصال اليوم، وسرعتها وانفتاحها بحيث أصبح يحق للجميع أن يصير "ناقداً"، كل حسب ثقافته ومحيطه الاجتماعي والثقافي، وبالتالي يصبح الكيان الإبداعي مستباحاً، يُخترق جسداً وروحاً ليتم نسفهُ في الكثير من الأحيان.
يساعد هذا الواقع (المضحك/ المبكي) على إقصاء المبدع وبقائه أسير صمته، الصمت الذي يعنى تجاهل مشكلاتنا. في المقابل، ننتظر دائما من المثقف تجميل الواقع وإعطاء الصورة التي نريدها، وليس ما هي عليه حقيقة.
يبدو هذا الأمر في كثير منه تخريباً وإرهاباً موجها، يمارس بقصد ومن دون قصد على المثقف من أشخاص غير مؤهلين، أو مؤهلين ويخدمون أطرافاً صاحبة مصلحة في بقاء المثقف صامتاً أو متعامياً. وعلى الرغم من الضرورة الملحة لوجود رقابة ما، على ألاّ تكون خارجَ هاجس المثقف، وجوهر عمله، بحيث تكون شريكاً له، لا متعالية عليه.
avata
avata
مبروكة علي (تونس)
مبروكة علي (تونس)