حرب هاني شاكر على أذواقنا "الهابطة"

حرب هاني شاكر على أذواقنا "الهابطة"

02 مارس 2020
+ الخط -

أكره هاني شاكر بعمق وحدّية لا يشبهها شيء، ربما أكره هاني شاكر أكثر من حبّي لأمّي. أكره ابتذاله، أفكاره التي يروّج لها، اقتناعه بجماله وتفوّقه وقدرته على تسمية نفسه فنّاناً، وتسمية ما يصنعه فنّاً، لأنّه بالطبع فنّ باعتراف الكثيرين. في الحقيقة، أكثر ما أكره في هاني شاكر هو اضطراري للاعتراف بأنّه فنّان، رغم أنّ أغانيه تشعرني بالغثيان. 

أكره أنّه يضعني في أسئلة أقرب للوجودية منها للفنّيّة. عندما يشارك أحد أصدقائي أو أقربائي إحدى أغانيه دون تهكّم، أشعر أنّني في مواجهة مع مفهوم "ما هو الفنّ" نفسه، أسأل نفسي "كيف يحبّ أحدهم شيئاً بهذه الدناءة؟"، لكنّني أعود لأوقف الرقيب الداخلي النخبويّ الصغير الذي ينغّص عليّ استمتاعي بمعظم الإنتاج الفنّي.

أتنفّس بعمق… أعدّ للخمسة… أهمس لنفسي: القصّة أذواق، الناس تحبّ ما تحبّ، ما دخلنا! الله يعين العالم… وأذكّر نفسي بحبّي الجارف للمغنّي السوري جاسم العبيد، وأذكر شعاري الموسيقيّ القديم، "يعيش المرحوم جاسم العبيد، وأذكّر نفسي بأنّ المرحوم غنّى ملحمته الشهيرة "ربع الشرطة"، التي يتغزّل فيها ببشّار الأسد والتي شكّلت غصّة في مسيرة فنيّة شبه مثاليّة يحلم بها أكبر نجوم البوب، رغم أن الفنان الفقير مات في ريعان شبابه.

اختلافي مع هذه الأغنية سياسيّاً لا يلغي إعجابي بحفلات جاسم وصوته العابق بالدخان المهرّب وعرق الريّان، بيجامة النفخ، وقصّة الشعر التي تشبه سورية التسعينيات، وهذا بالطبع جزء من قبول أيّ مشروع فنّي. دائماً ما سنختلف مع الفنّان لكنّ هذا لا ينهي استمتاعنا بألحانه أو قدرتنا على الرقص على إيقاعاته. أدرك جيّداً أنّك قد تقرأ هذا الكلام فتحكم عليّ، بأنّي شعبوي أو أنّي صاحب ذوق تافه، أو أنّي سوداويّ أكره العواطف المجلّخة. كلّها غالباً صحيحة. لكنّ هذا لا يغيّر من صحّة ما أقول.

وكما أكره نعت جاسم العبيد بأنّه ليس فنّاناً، لن أعارض وجود هاني شاكر أو أعيّر من يحبّونه، فجميعنا نرتكب الحماقات. لم أكن أعرف أنّ هاني شاكر نقيب المهن الموسيقيّة المصريّة، لم أستغرب في الحقيقة لأنّ نقيب الفنّانين السوريين هو زهير رمضان، أو الرّطانة مرتديةً ربطة عنق، ونائبه هادي بقدونس، كارثة جيلنا التي تحاول العزف على الكمان. لم أستغرب قرار منع موسيقى المهرجانات بالذات بعد قراءة ما كتبه بعض الرفاق المصريين عن الأبعاد الاقتصاديّة للموضوع، وعن رقابة النقابة على صناعة الموسيقى في مصر وصلاحياتها المؤسساتية.
في الحقيقة، دائماً ما أبهرتني "صناعيّة" و"مؤسّساتية" صناعة الفنّ المصرية بالمقارنة بالمسخ الاشتراكي السوري سواء في السينما أو الموسيقى. ما استغربته في القرار والنقاش التابع له هو استعداد فنّان ما لاستخدام أسلحة ضدّ زملائه سوف تستخدم ضدّه. لا شكّ أنّ نعوت الانحلال والانحطاط والسوقيّة قد تستخدم ضدّ أيّ فنان، بالذات في الدول الإسلامية.

ربّما يعتقد أنّ رمي مطربي المهرجانات للإعلام ككبش فداء سيسمح له باستغلال السوق، وهو قد يكون صحيحاً بشكل مؤقّت. لكنّ منع نوع موسيقي كامل يقترب من الخيال أكثر منه للواقع.

أريد أن أرى ما سيكتب عندما يراسل "يوتيوب" و"ساوندكلاود" لتحذف الأعمال الشعبية، أتمنّى أن يستخدموا ذريعة "الفن الهابط" مع "ساوندكلاود" ليحقّقوا الكمال في هذه القصّة. ربّما كل ما سبق ذكره تفاصيل، لكنّ أجمل ما في الأمر هو وهم المؤسّسات الرسمية العربية، أنّهم يعتقدون أن بإمكانهم أن يعودوا بالزمن إلى الوراء. هذا المنحى بدأ بعد نجاح الثورات المضادّة والحروب الإقليميّة في قمع جيلنا الذي كان محرّك ووقود الحركات الثورية العربية.

ربّما تكون رموز السلطة أقدر اليوم على السيطرة على الفضاء العام في الساحات وأماكن الاحتفالات أو الشاشات التجارية. لكنّ الإنترنت ستبقى خارج سيطرتهم، مراسلة هاني شاكر لـ"يوتيوب" و"ساوندكلاود" لحذف الأغاني الهابطة أقرب إلى نكتة ديستوبيا سورياليّة منها إلى خطر يهدّد وجود الفنّ الشعبيّ على الإنترنت. بالنسبة للإنترنت، لا أتوقع أن يكون الإشكال الحاليّ أكثر من دعاية إيجابيّة لمنتج ثقافيّ شعبيّ. حلقة جديدة من المواجهة بين الثقافات العربية المستقلّة وما تروّج له الجهات الرسميّة. تشبه ما يحصل في الغرب من نزاع بين الـ"سايبر بنك" ورؤوس الأموال، بين أنصار حريّة تبادل المعلومات وأنصار الربحيّة.

وربّما تبدو شبكة الإنترنت ملجأً لأصحاب الأعمال الممنوعة والمغضوب عليها، لكنّها تصبح أقرب إلى السجن بعد أن تتنقّس التجارب الفنيّة في الفضاء العام، بيتها الحقيقيّ. وربّما سنتمكّن جميعاً من الاستمتاع بأذواقنا الهابطة على الإنترنت، لكنّ موسيقى كهذه تعيش وتزدهر في الشارع، فهي منه وله.

المساهمون