جرم زوكربيرغ

جرم زوكربيرغ

09 ابريل 2018
+ الخط -
يحاول مارك زوكربيرغ تطويق أزمة تورّط شركته "فيسبوك" في ممارسة دور سياسي، والتأثير على اتجاهات الرأي العام الأميركي، فبعد أن حاول، في البداية، التهوين من القضية، اضطر إلى الانحناء أمام العاصفة، وأقرّ بالإفصاح عن معلومات عشرات الملايين من مستخدمي موقع فيسبوك وبياناتهم لصالح شركة بريطانية (كامبردج أنالتيكا) التي وظفتها في تنظيم حملات إعلامية وإعلانات ذات محتوى سياسي، خلال انتخابات الرئاسة الأميركية، لتعظيم فرص فوز دونالد ترامب بالرئاسة.
في خضم الضجة التي أثارتها تلك القضية، لم يفكّر أحد في جوهر الجريمة التي ارتكبتها "فيسبوك". هل يكمن الخطأ في تسريب "فيسبوك" البيانات الشخصية لعملائها مستخدمي الموقع؟ أم في توظيف سلوك التصفح وآراء المستخدمين وتعليقاتهم، بهدف التعرف على الاتجاهات السياسية ومداخل التأثير فيها بشكل متعمد؟ أم في تمرير إعلانات ومواد سياسية، من شأنها التلاعب باتجاهات الرأي العام، خصوصاً فيما يتعلق باستحقاقات مهمة.. وهو ما حدث في انتخابات الرئاسة الأميركية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2016؟
تستخدم الحكومات البيانات والمعلومات عن مواطنيها، لأغراض أمنية، أما مؤشرات وسلوكيات التصفح والاستخدام التي تجسد الاهتمامات والمواقف السياسية للمواطنين، وكذلك أولوياتهم التجارية والاستهلاكية، فقد لا تمثل أولوية لدى الحكومات بقدر أهميتها لشركات التسويق والسياحة والموضة. في كل الأحوال، البيانات والمعلومات، الشخصية أو غيرها، تكون مكشوفة ومعروفة لجهات رسمية وأخرى تجارية.
ليست "فيسبوك" أول شركة تتورّط في تسريب البيانات أو انتهاك خصوصية المستخدمين، فهي تمارس تلك الانتهاكات من قبل وبصورة مُمنهجة ودائمة. والشيء نفسه تفعله "غوغل" و"يوتيوب" ومعظم، إن لم تكن كل، شركات الاتصالات ومقدمي خدمات الإنترنت في العالم، سواء الخاصة بشبكات التواصل الاجتماعي، أو غيرها من موفري خدمات الشبكة العنكبوتية وخدمات الاتصالات. ولم ينس العالم بعد، المواجهة التي خاضتها شركة آبل قبل أعوام، عندما طلبت منها الحكومة الأميركية توفير إمكانية اختراق بيانات هواتف "آي فون" ومراقبة اتصالات مستخدميها ونشاطاتهم وتتبعها.
إذن، ليست المشكلة في "فيسبوك"، ولا في انتهاك خصوصية المستخدمين، وإنما المشكلة الحقيقية في أن البيانات التي أتاحتها "فيسبوك" جرى توظيفها في انتخابات الرئاسة، أي في شأن أميركي داخلي، يتعلق باختيارات المواطن الأميركي من يحكمه. وما زاد الأمر خطورة، وجعل القضية تأخذ بعداً "فضائحياً" أن الطرف النهائي المستفيد من تلك الانتهاكات، هو روسيا التي لا يزال التحقيق جارياً بشأن اتصالات مباشرة لها، تمت مع أركان حملة دونالد ترامب الانتخابية، وربما مع ترامب شخصياً. فالصورة العامة تبدو كما لو أن روسيا تدخلت لإنجاح ترامب، على غير الرغبة الحقيقية للناخب الأميركي، بتواطؤ وتورط شخصيات وأطراف أميركية، من بينها شركة فيسبوك.
ولو لم تكن روسيا طرفاً في الأمر، لما استشاط الأميركيون غضباً، ولما تحول الموضوع قضية من الأصل، ولو أن الانتهاك الذي قامت به "فيسبوك" ضد عملائها خدم هيلاري كلينتون المرأة الجميلة صاحبة الخبرة السياسية الواسعة سيدة أولى ثم وزيرة خارجية، وليس ترامب التاجر الجشع عديم الخبرة بالسياسة، لمرّ الموضوع من دون ضجة كبيرة، ولحظي بقدر أقل من الاهتمام والغضب في الداخل الأميركي.
خطيئة "فيسبوك" الحقيقية هي خطيئة كل شركات الاتصالات والإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي. أنها تكذب على عملائها، ليس فقط فيما يتعلق بتقديم البيانات ومؤشرات الاستخدام لأطراف ثالثة، من دون علم أصحابها، وإنما في عدم تعريف المستخدمين أن معلوماتهم الشخصية وسجلات الاستخدام ومحتوى التواصل فيما بينهم يتم الاحتفاظ به، ويخضع لعملية تحليل دقيقة وشاملة لاستخلاص دلالات ومؤشرات متعددة، سياسية واستهلاكية واجتماعية وغيرها. أي باختصار هي عملية تجسس شاملة ومكتملة الأركان. وبعد أن كانت تجري لحساب جهات محلية أو شركات تجارية، تم توجيهها، هذه المرة، لصالح أطراف خارجية. فقط تغير الزبون المستفيد من المعلومات المسروقة، فاستشاط الزبون الأصلي غضباً. كل ما في الأمر أن لصاً أخذ مكان لص، بينما الجريمة هي نفسها، والضحية واحد في كل الأوقات، ومع كل اللصوص.
58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.