بعد أفلام قصيرة ووثائقية وروائية عديدة، برز اسم المخرج الروماني رادو جود (1977) كأحد أهم مُخرجي السينما الرومانية الجديدة الواعدين، خصوصًا بعد فيلمه التاريخي الرائع "عفارم"، الفائز بـ"الدب الذهبي لأفضل إخراج" مُناصفة مع البولندية "مالغورزاتا شيموفسكا" عن "جسد") في الدورة الـ65 (5 ـ 15 فبراير/ شباط 2015) لـ"مهرجان برلين السينمائي الدولي".
بعد فيلمه الرومانسي "قلوب جريحة" (2016)، الفائز بجائزتي "دون كيخوتة" و"لجنة التحكيم الخاصة" في الدورة الـ69 (3 ـ 13 أغسطس/ آب 2016) لـ"مهرجان لوكارنو السينمائي الدولي"، عاد رادو جود مُجدّدًا إلى التاريخ، وتاريخ رومانيا تحديدًا، بفتراته المُظلمة، وذلك في الوثائقيّ "الأمة الميتة" (2017)، الذي يستعرض ـ عبر صُوَر فوتوغرافية نادرة ـ ثلاثينيات القرن الـ20 وأربعينياته في إحدى القرى الرومانية، وما ارتكبه الرومانيون من مُعاداة للسامية ضد اليهود والغجر وغيرهم من أقليات تلك الفترة.
في فيلمه الروائي الأخير "لا يهمّني إنْ أداننا التاريخ كبرابرة" ـ الفائز بـ"الكرة البلورية" كأفضل فيلم روائي طويل في المُسابقة الرسمية للدورة الـ53 (29 يونيو/ حزيران ـ 7 يوليو/ تموز 2018) لـ"مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي" ـ يعود مرة أخرى إلى التاريخ المعاصر لرومانيا، وتحديدًا إلى عام 1941، ليكشف المسكوت عنه في أحداثٍ جرت وقائعها في الجبهة الشرقية في الحرب العالمية الثانية، والمذبحة العرقية ـ المعروفة بـ"الهولوكوست" الروماني ـ التي اقترفها الجيش في تلك المنطقة بأمر من الديكتاتور الفاشي ورئيس وزراء رومانيا يوان أنتونيسكو القاضي بقتل عشرات آلاف اليهود وغيرهم، بعد أسرهم من القوات الرومانية، وهذه معروفة ايضًا باسم مذبحة "الأوديسة"، عندما كانت مدينة "الأوديسة" الأوكرانية واقعة تحت الاحتلال الروماني. جريمة حرب وجرائم وفظائع أخرى ارتكبها أنتونيسكو أدّت في النهاية، إلى إعدامه عام 1946.
الفيلم الجديد لرادو جود مزيج من الماضي والحاضر. نَبْشٌ في جراح الماضي وتعريتها، وإدانة للكذب والتضليل وتزييف التاريخ. في 140 دقيقة، تعمل المُخرجة المسرحية ماريانا (إيوانا ياكوب على كتابة عرضٍ احتفالي وتصميمه والتدريب عليه، على أن يُقدَّم لاحقًا في أحد ميادين بوخارست. يستعرض العمل التاريخ المعاصر لرومانيا، خصوصًا جهود الجيش الروماني على الجبهة الشرقية مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وتَحوُّل رومانيا من نصير لهتلر إلى عدو له. الأمر ليس سهلاً أبدًا، إذْ ترغب ماريانا في تقديم الحقيقة التاريخية التي وقعت في الأوديسة ومواجهة الناس بالمسكوت عنه، أو تجاهل ما جرى، وهذا يتعارض مع أمور مزيّفة كثيرة ممنوحة للناس.
كما أنها تُواجه صعوبات جمّة، بدءًا من البحث التاريخي والرغبة في تقديم الحقيقة، وصولاً إلى المُمثلين غير المحترفين المتطوّعين للعمل معها، إذْ يرفض بعضهم تأدية أدوار جنود في الجيش السوفييتي، أو ارتداء ملابس الجيش الروماني في تلك الفترة، أو العمل مع الغجر، أو تقبّل فكرة ما فعلته القوات الرومانية.
الخلاف الأكبر لماريانا متمثّل في ظهور موفيلا (ألكسندرو دابيجا)، مسؤول في وزارة الثقافة بالمدينة، مطلوبٌ منه الإشراف على العرض، الذي وافق على دعمه وتمويله. يخشى موفيلا رد الفعل المحتمل من الجمهور لكون العرض يتضمَّن ما يُمكن اعتباره مُعاديًا أو مُناهضًا لرومانيا والرومانيين. ربما سيُثير حساسيات كثيرة، وجدلاً وتوترًا كبيرين. في هذا الإطار، تدور نقاشات ثرية وعميقة بينهما حول الحقيقة وماهية التاريخ ونسبيته. ترغب ماريانا في تقديم ما حدث بكلّ صدق وأمانة. أما موفيلا، الهارب من دور الرقيب، يرى أن لا ضرر من تخفيف وطأة ما جرى، خصوصًا مع مقارنته بالأهوال الواقعة على امتداد التاريخ، وكان الرومان أنفسهم ضحية لها.
يستمر الجدل بينهما طويلاً، لا سيما مع تردّد موفيلا إلى أماكن التدريبات كثيرًا، رغبة منه على الأقل في إثنائها عن تقديم فقرة عن حرق اليهود وشنقهم، وتوضيح نسبية ما حدث وغموضه، بالإضافة إلى ما سيُثيره هذا كلّه عند الجمهور والسلطة السياسية معًا. وهو يعتبر أن عرض المشاهد تلك سيخيف الأطفال، ويعَدّ إهدارًا لأموال دافعي الضرائب، وفيها إهانة لأبطال الجيش الذين سقطوا في الحرب.
تتعرّض ماريانا لضغوطٍ كبيرة كي تتراجع عن فكرتها، وعما تؤمن بأنه ضروري وصحيح. يأبى ضميرها أن تتراجع، فهو مُصرّ على عرض الحقيقة مهما كانت العقبات، لأن التصالح مع الماضي ضرورة مُلحة لفهم الحاضر واستيعابه، ولمحاربة العُنصرية، وللمضي قُدمًا نحو مستقبل مبنيّ على التصالح مع الذات. إنها شخصية عنيدة، مُؤمنة بما تفعله، رغم الضغوط التي تُحاصرها في العمل وحياتها الشخصية: تكتشف أنها حامل من حبيبها المتزوّج (العلاقة بينهما شائكة أصلاً)، لكنها لم تُقرِّر لغاية الآن ما إذا كانت ستحتفظ بالجنين أم لا.
إلى جانب مزجه ماضي رومانيا بحاضرها، يمزج رادو جود في فيلمه بين أنواعٍ سينمائية عديدة. الفيلم المسرح، والفيلم داخل الفيلم، بالإضافة إلى التسجيليّ والأرشيفيّ. حِرفية المخرج وجرأته يُساهمان في نجاح هذه الخليط كلّه، والخروج بفيلم شديد التماسك من ناحية الأسلوب والأفكار المطروحة. إنه فيلم أفكار وأطروحات وحوارات وسجالات، أكثر من كونه فيلمًا بصريًا أو جماليًا. لذا، هو شديد الخصوصية، وإنْ تكن خصوصيته ـ لا سيما مع طول مدّته، وامتداد حواراته وعمقها وتاريخيتها، وكثرة الأسماء الفكرية والسياسية والفنية والأحداث التاريخية ـ أفقدته الكثير من التشويق والإثارة، وجعلت مُتعته فكرية بحتة.
تلك المُتعة محتاجة إلى صبرٍ كبير لقطف ثمارها، وهذا لا يقدر عليه كثيرون من الجمهور العادي. هنا تكمن مُشكلة الفيلم أساسًا: العجز عن المُتابعة، ثم تسلّل الملل سريعًا.