جدل العمارة والسياسة: "جامع بريشتينا الكبير" بين التصاميم

جدل العمارة والسياسة: "جامع بريشتينا الكبير" بين التصاميم

04 سبتمبر 2020
من مدينة بريشتينا (Getty)
+ الخط -

بعد تحويل متحف آيا صوفيا في إسطنبول إلى مسجد في العاشر من تمّوز/ يوليو الماضي، وما أثاره ذلك من ردود أفعال داخل تركيا وخارجها، جاء المرسوم الصادر عن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 21 آب/ أغسطس الماضي بتسليم "متحف تشورا" في القسم الأوروبي من إسطنبول لرئاسة الشؤون الدينية، ليثير النقاش والخلاف بين مؤيدي المرسوم ومعارضيه؛ فقد كانت "كنيسة المخلّص المقدّس" من أجمل الكنائس البيزنطية في القسطنطينية، وبقيت كذلك بعد الفتح العثماني حتى عام 1511 حين حُوِّلَت إلى مسجد، وبقيت كذلك إلى 1923 حين أُغلقت، لتتحول لاحقاً إلى متحف بعد جهود مضنية لاستعادة الرسوم الفنية فيها.

وفي هذا السياق، بين أنصار "العمارة العثمانية"، التي تتحول في الخارج إلى "سياسة العثمانية الجديدة"، ومعارضيها، يمكن فهم التوتّر الذي يخفّ ويشتدّ من حين إلى آخر خلال 2012 - 2020 حول مظهر "جامع بريشتينا الكبير" في العاصمة الكوسوفية. وفي الواقع، يبدو لمن يزور المدينة ويشاهد في مركزها كاتدرائية الأم تريزا، أنه في دولة بغالبية كاثوليكية وليس في دولة تمثّل أعلى نسبة للمسلمين في أوروبا (95%).

وقد أثارت موافقة الحكومة الكوسوفية على السماح ببنائها وفق هذا التصميم في 2005 معارضة بعض المثقفين، بسبب أن بناءها كان يفترض هدم مدرسة ثانوية لها قيمتها التاريخية لعدة أجيال في العاصمة، كذلك فإنها وضعت المشيخة الإسلامية (التي تمثل المسلمين أمام الدولة وترعى شؤونهم) في دائرة الحرج، لأن بريشتينا لا تزال تعتمد على ما بقي من جوامع من الحكم العثماني الطويل الذي دام نحو 500 سنة، مع أن عدد سكانها تضاعف أكثر من عشرين مرّة منذ نهاية الحكم العثماني، حتى إنه في صلاة الجمعة يصلّي المسلمون في الشوارع المحيطة بجامع السلطان محمد الفاتح الذي بُني في 1462.

قبل تركيا موّلت دول الخليج الجوامع الجديدة في البلقان

ومع تزايد الحرج، أعلنت رئاسة المشيخة الإسلامية في 2012، بعد افتتاح الكاتدرائية في 2010، موافقة السلطات المحلية (بلدية بريشتينا) على تخصيص قطعة أرض لبناء "جامع بريشتينا الكبير"، تبعد نحو 200 متر عن الكاتدرائية في الشارع الرئيس نفسه الذي يخترق بريشتينا من المركز إلى الجنوب، وأعلنت بهذه المناسبة طرح مسابقة دولية لاختيار أفضل تصميم للجامع، بشرط أن يكون "أصيلاً". ومع هذه الحماسة، جرى في الثامن من تشرين الأول/ أكتوبر من العام نفسه احتفال كبير بوضع الحجر الأساس، شاركت فيه رئيسة الجمهورية عاطفة يحيى آغا، ورئيس البرلمان يعقوب كراسنيتشي، ورئيس الحكومة هاشم ثاتشي.

الصورة
جامع بريشتينا الكبير - التصميم العثماني - القسم الثقافي
(التصميم العثماني المقترح لـ "جامع بريشتينا الكبير")

ومع أن رئاسة المشيخة لمّحت إلى أن الجامع سيُبنى من التبرعات المحلية، إلا أن زيارة رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان لكوسوفو في 2013، وتصريحه المفاجئ في مدينة بريزرن (مركز ولاية كوسوفو العثمانية) بأن "كوسوفو هي تركيا وتركيا هي كوسوفو"، أشارا إلى موجة قوية من الاهتمام التركي بتجديد كل الآثار العثمانية الموجودة في كوسوفو، وانتهى إلى إعلان تولي رئاسة الشؤون الدينية في تركيا بناء "جامع بريشتينا الكبير".

ولكن هذا التوجّه لم يمرّ دون معارضة من بعض السياسيين المتحفظين على "العثمانية الجديدة" والمثقفين لاعتبارات مختلفة، وخاصة بعد أن تسربت إلى الصحافة في نهاية 2016 وبداية 2017 التصاميم المشاركة في المسابقة الدولية لشخصيات عالمية ومكاتب هندسية معروفة وتفضيل رئاسة المشيخة الإسلامية لنموذج عثماني كلاسيكي اختارته رئاسة الشؤون الدينية في تركيا. فقد تبيّن أولاً، أن المهندسة المعمارية العالمية الراحلة زها حديد، قد شاركت بتصميم "أصيل" لهذا الجامع، بينما كان التصميم المقترح يماثل جامع السليمية في مدينة أدرنة الذي يعود إلى القرن السادس عشر.

التصميم المقترح يماثل جامعاً في مدينة أدرنة من القرن 16

وهكذا بدأت في 2017 الدعوة إلى التوقيع على عريضة تحتجّ على التصميم المقترح الذي قد ينسجم مع بريشتينا القديمة (العثمانية)، ولكن ليس مع بريشتينا الحديثة، وبالتحديد في جوار مبنى الاتصالات بحيّ "داردانيا" الذي يمثل "حداثة بريشتينا". وقد عبّر وقتها عن هذه المعارضة الإعلامي المعروف أدرياتيك كلمندي، بتصريحه "أنا مع بناء الجامع، ولكن ليس حسب التصميم الذي وقع الاختيار عليه، بل حسب التصميم الذي قدّمته زها حديد، أشهر مصممة في العالم".

وقد تجدد النقاش والخلاف حول "جامع بريشتينا الكبير" في نهاية 2018 وبداية 2019، حين كشف رئيس بلدية بريشتينا عن أن المشيخة الإسلامية لم تقدم بعد طلباً رسمياً لبناء الجامع، لأنه يفترض أن يصحبه تصميم الجامع والمخططات الهندسية له. وفي هذه المرة، أخذ النقاش بعداً دولياً بعد أن نشرت جريدة "الغارديان" في الثاني من كانون الثاني/ يناير 2019 تغطية للموضوع بعنوان "هدية تركيا لبناء جامع تثير الخشية من العثمانية الجديدة في كوسوفو".

ومع أن الجريدة نقلت رأي رئيس المشيخة الإسلامية نعيم ترنافا، بأن حاجة المسلمين في كوسوفو إلى الجوامع كبيرة في المدن والقرى، حيث "هناك 50 قرية من دون مساجد، بينما لا يوجد في أوروبا قرية من دون كنيسة"، إلا أن الجريدة نقلت أيضاً اعتراض المحتجين على "التصميم العثماني" للجامع، وليس على بناء الجامع نفسه.

الصورة
جامع بريشتينا الكبير - تصميم زها حديد - القسم الثقافي
(تصميم زها حديد)

ومن هؤلاء كان المهندس المعماري آربر صادقي الذي قال إن إعلان المسابقة الدولية لاختيار أفضل تصميم للجامع كان ينصّ فقط على أن يكون "تصميماً أصيلاً"، ولذلك لقيت المسابقة استجابة واسعة وشاركت فيها ثلاثون شخصية معروفة ومكاتب هندسية دولية، ومنهم أسماء مشهورة مثل زها حديد. وبعد أن أكّد المهندس صادقي أنّ "التصميم (العثماني) الذي اقترحته المشيخة هو سياسي وليس معمارياً"، انتهى إلى السؤال: "إني أعرف بعض المهندسين الذين يصمّمون جوامع مثيرة للإعجاب في تركيا، فلماذا لا تكون بريشتينا في مثل هذه الخريطة؟".

تجدر الإشارة هنا إلى أن المناطق ذات الغالبية الألبانية التي خضعت للحكم العثماني المباشر في منتصف القرن الخامس عشر عرفت في بدايتها بناء الجوامع السلطانية التي كانت تمثل "العمارة العثمانية الكلاسيكية"، ولكن بعد قرنين برزت نخبة محلية مالت إلى نموذج مختلف للجوامع يعبّر عن هوية محلية. ومن هذه الجوامع ما اشتهر خارج البلقان بعمارته التي تنسجم أكثر مع الوسط المحلي الألباني ورسوماته الجميلة الداخلية والخارجية مثل جامع أدهم بك في وسط العاصمة الألبانية تيرانا و"جامع الأختين" أو "الجامع الملوّن" في مدينة تيتوفو في مقدونيا الشمالية وغيرها.

وكان كل عيد يجدّد النقاش والخلاف مع رؤية المسلمين وهم يصلّون في الشوارع المحيطة بجامع السلطان محمد الفاتح في بريشتينا القديمة، وهو ليس أفضل مظهر حضاري لصلاة الجماعة، ولكن وباء كورونا في 2020 خفّف الحدة مؤقتاً بعد أن منعت الصلاة في المساجد. ولكن هذا لم يمنع ظهور تجمع احتجاجي في المكان المقترح لبناء "جامع بريشتينا الكبير" في 22 تموز/ يوليو الماضي فاق فيه عدد الصحافيين والمصورين عدد المحتجين، نظراً لحساسية الموضوع للرأي العام. وفي هذا السياق وصل الاحتقان بالإعلامي فيسار دوريتشي إلى القول في لقاء مع برنامج مشاهد على نطاق واسع في قناة "ت 7" إنه "ليس ضد بناء الجامع، بل ضد تصميم الجامع، لأنه يعني أن هناك من يحاول إعادة فتح كوسوفو ثقافياً".

وهكذا، مع أصداء تحويل "متحف تشورا" إلى جامع قبل أيام، يتجدد النقاش حول "جامع بريشتينا الكبير"، ويتحول إلى موضوع خلافي بين أنصار "العمارة العثمانية" ومعارضي "العثمانية الجديدة" في كوسوفو التي لم يعد أردوغان لزيارتها منذ 2013 حين صرّح بأن "كوسوفو هي تركيا وتركيا هي كوسوفو".

وتجدر الإشارة هنا إلى أن علاقة الرئيس أردوغان مع كوسوفو تراجعت منذ المحاولة الانقلابية الفاشلة في صيف 2016، بسبب مماطلة السلطات الكوسوفية في الاستجابة لمطالبه بتصفية وجود المؤسسات التابعة لغريمه فتح الله غولن، بينما بقيت "العثمانية الجديدة" نشطة في كوسوفو بواسطة رئاسة الشؤون الدينية التركية والوكالة التركية للتعاون والتنسيق (تيكا)، وهو ما يفسّر عبارة الإعلامي الكوسوفي فيسار دوريتشي عن "الفتح العسكري العثماني" الأول و"الفتح الثقافي العثماني" الجديد.

وفي الواقع، فإن هذا الخيار مرتبط ببساطة بمن يموّل بناء الجامع، وبالتحديد بثقافة المموّل وأجندته، ولذلك ما دام التمويل من تركيا، فالمموّل يفرض نفسه. فقبل "العثمانية الجديدة"، كانت دول الخليج هي الممولة الرئيسة للجوامع الجديدة في البلقان بعد انهيار الأنظمة الشيوعية، وهو ما أدى آنذاك إلى جوامع لا هي "عثمانية كلاسيكية" ولا هي "عثمانية جديدة".


* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري

المساهمون