تيتانيك المصرية

تيتانيك المصرية

25 فبراير 2016
يدرك القائد "الملهم" أن السفينة ستغرق (مواقع التواصل)
+ الخط -

الكثيرون من أبناء جيلي ومن غيرهم يتذكرون جيداً فيلم "تيتانيك"، كأول إطلالة لليوناردو دي كابريو في دور "جاك" الذي أحب "روز" بالرغم من فقره وانتمائه إلى الطبقة المهمشة، التي تعامل معاملة الحيوانات، مقارنة بما يلقاه بقية الركاب على ذات السفينة.

وكلما شاهدت هذا الفيلم أتذكر "الوطن"، ثمة تشابه مدهش ما بين أحداث الفيلم وما يمر به الوطن (مصر) حالياً. ليس على سبيل الكوميديا، بل على سبيل التراجيديا الأشد سوادا التي ترسم فصولها ريشة الواقع البائس الذي غدونا جميعا أسرى له.

فـ "تيتانيك" المصرية، التي انطلقت بعنفوان وبروبغاندا إعلامية هائلة ما بعد الـ 30 من يونيو، وركب المصريون على متنها على اختلاف فئاتهم، تحمل ذات الطبقية البغيضة التي لا تكاد تصدق، ففي شوارع وأزقة تيتانيك المصرية هناك الملايين الذين يعيشون تحت خط الفقر، بل يتمنى بعضهم أن يقترب منه، تتآكلهم الأمراض والأوبئة ويتسلط عليهم حراس السفينة الذين يعاملونهم بكل قبح وفجاجة ويبتزونهم في الغدو والرواح، وهم في قمة الاستسلام والضعف أمام تلك العصيّ الغليظة والواقع المزري.

وفي ذات المركب وبصعودك سلالم قليلة إلى ما يشبه "كومباوندات تيتانيك" المصرية، تعيش تلك الطبقة المرفّهة التي لا تكاد تشعر أساساً أن ثمة طبقة أخرى تعيش تحت أقدامها في أقبية السفينة، وهؤلاء يعيشون قمة البذخ والترف الاقتصادي وتشكل علاقاتهم مع السلطة أعلى درجات الانسجام والتماهي، وهم جاهزون دائما بالدولارات التي تملأ جيوبهم لأي طارىء قد يطرأ على السفينة ليكونوا أول الفارين منها.

ثمة تشابه ما بين الانطلاقة الغاشمة التي تعتمد على القوة الواهية، ولا تستند في الحقيقة إلا على سواعد الفقراء المساكين، الذي يعملون في محركاتها ليل نهار يلقون في أفرانها الفحم لتتحرك بقوة أكبر حتى من قدراتها، كي تتحقق أمنية مالك السفينة في أن يصل بها قبل الوقت المحدد، كي يحظي بمزيد من الأضواء والمديح ولو على حساب الوطن كله.

تشق السفينة غمار البحر المظلم الذي زاده الليل سواداً فوق سواده، وهي تحمل فوق ظهرها كل هذا التناقض وهذا الظلم، الجميع وللغرابة ينشد الأناشيد تغنيا بقائد السفينة الذي سيحقق لهم أملهم في الوصول السريع إلى شواطىء الرخاء والمزيد من الاستقرار فالمال في انتظار الجميع!

ويصبح المراقب أشد استهجانا وهو يرى تراقص هؤلاء الفقراء البسطاء، الذين يتجرعون المرارة في ذات الوقت الذي يتراقص فيه كذلك الأغنياء على موسيقاهم، التي يعزفها لهم أفضل العازفين، فيصيب السكر الجميع، والمركب ينطلق بقوة عمياء في ظلام دامس، وما هي إلا ساعات قليلة وسيصطدم المركب بجبل من الجليد يقطع أوردة السفينة بلا رحمة.

ربما يستوقفني أحدكم بسؤال، وأين جاك وروز من تلك المقارنة؟

ذات السؤال قفز إلى مخيلتي لكنني لم أتعاطف معه! ثمة شعور داخلي بأن تلك القصة -إن صدقت - لم تأت مصادفة. كثير من القصص اليوم في تيتانيك المصرية لم تعد تعرف لها قدما من رأس، ولا أين مكمن الحقيقة فيها، لكن المؤكد عندي أن ثمة هدفاً آخر خلف كل قصة تنطلق اليوم في الإعلام، لتلهي الناس عما يدور في السفينة وبداخل أروقتها. مكياج للواقع البغيض يتلهى فيه المتابعون بالرومانسية الحالمة فيصبح جل تركيزهم مع هؤلاء العاشقين. حتى في أشد لحظات الوطن سوداوية تظل عيناك معلقتين بإنقاذ الحب منشغلا به عن إنقاذ ملايين الأبرياء.

والحقيقة أن تلك النماذج قد نجحت إلى حد بعيد في هدفها، فما زلنا منشغلين يوما بعد يوم بقصة لجاك وروز، أو أيا كانت مسميات القصص، التي تسوق لإلهاء الناس عن السفينة التي يسوقها قائدها إلى الغرق!

وتحضر السلطة في المشهد بفجاجتها المعتادة، فالاتفاقات المسبقة ما بين رجال الأعمال وأصحاب القبعات السوداء لا تتوقف، فدائما ثمة رجل أمن جاهز بسلاحة كي ينفذ رغبات السيد ممتلئ الجيوب بالدولارات، ودائما ما يكون الضحية من هؤلاء المساكين الكادحين، الذين لن يجرؤ أحدهم على فتح فمه أمام تغول وجبروت اتحاد السلطة ورأس المال.

ووسط كل تلك الفوضى، التي يعيش فيها رواد السفينة، تقترب أكثر من مصيرها المحتوم، وسط انغماس الأغنياء في الاستمتاع بثرائهم الفاحش، وتهليل الفقراء الدائم للقائد الملهم الذي يعدهم بالجنة المفقودة، ووسط مطاردة السلطة للشاب الذي تجرأ وتسلق سور الكومباوند ليختطف من رجل الأعمال لعبته التي يزهو بها، وسط كل هذا الهم، تصطدم السفينة بجبل الجليد في الظلام، يهز الاصطدام الكل بعنف فيتوقف الجميع للتأمل لكن بعد فوات الأوان..

يدرك القائد الملهم أن السفينة ما كان ينبغي لها أن تتوغل بتلك السرعة، وأن ما روج لها في الإعلام أكبر من حقيقتها وحقيقته، بل يدرك أن الباقي من الزمن لن يكفي حتى لهروب ركابها من براثن الغرق المحتوم. يفيق صاحب السلطة على الواقع الأليم، الذي لم تعد تنفعه فيه السلطة ولا المال الذي يملأ جيوبه من الحرام، من دماء البسطاء أو رشى الأغنياء، فلا يجد أمامه إلا أن يطلق على نفسه الرصاص هربا من الواقع المؤلم، وهي نهاية عجيبة دائما ما يتنبأ بها كتاب السيناريو مهما اختلفت جنسياتهم لصاحب السلطة.

يبدأ المركب في الغرق... وحتى في الغرق تطل الطبقية القبيحة بوجهها، فالأولوية تأتي للسادة الأغنياء، أما الفقراء فلا تفتح لهم أبواب الزنازين الاختيارية إلا متأخرا وبعد سقوط القتلي على يد السلطة، وليس ثمة من يوجههم أو ينظمهم أو يطمئنهم، فيدخلون في فوضى عارمة وهم يحاولون إنقاذ أنفسهم بعد نفاد الوقت.

وأمام تلك الفاجعة التي مني بها الوطن بسفينته الغارقة، لا يزال الإعلام يسوق لجاك وروز ويجعلنا ننشد الترانيم ونتضرع بالدعاء إلى السماء أن ينقذ الحبيبين من المصير الأسود، الذي ينتظر الوطن كله!

وعلى متن السفينة الغارقة وقف هؤلاء الحالمون يعزفون مقطوعتهم الموسيقية الأخيرة، بعد أن غرقت سفينة الوطن.

(مصر)

المساهمون