تونس .. فخاخ أمام الفخفاخ

31 يناير 2020

إلياس الفخفاخ يتحدث للصحفيين في العاصمة تونس (24/1/2019/الأناضول)

+ الخط -
فجّر اختيار الرئيس التونسي، قيس سعيد، الوزير السابق إلياس الفخفاخ، مكلفا بتشكيل الحكومة، جدلا واسعا، وأسئلة بشأن الأسباب الخفية لاختيار هذه "الشخصية الأقدر"، كما نص على ذلك الفصل 89 من الدستور، وقد استبعد الرئيس شخصيات أخرى، كان متوقعا أن تكون إحداها مكلفة بهذا الدور، وهي شخصيات أجمعت عليها أغلب الأحزاب، وتشاور معها الرئيس، ومنها فاضل عبد الكافي وحكيم بن حمودة اللذان يحظيان بدعم حزبي واسع، من شأنه أن يجعل أحدهما شخصية قادرة على تشكيل حكومة ضامنة لحزام سياسي واسع، يؤهلها لنيل ثقة البرلمان. وبذلك، فاجأ اختيار الرئيس الجميع، وقد يكون من أسباب هذه المفاجأة أن إلياس الفخفاخ كان عضوا في حكومتين فاشلتين، الترويكا الأولى والثانية (2012 - 2013)، اللتين كانت تجربتهما الأسوأ في حكومات ما بعد الثورة، إذ شهدت تونس خلالهما تفشّي الإرهاب والاغتيالات والانفلات الاجتماعي، علاوة على التدهور العام اقتصاديا وسياسيا. وهو أيضا القيادي في حزب التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات، والذي اندثر بعد تجربة الحكم هذه مع حركة النهضة وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية. وقد غادر إلياس الفخفاخ الساحة السياسية بعد ذلك، فلم يُشهد له نشاط، إلى أن ظهر مترشحا للانتخابات الرئاسية 2019، وحصل فيها على نسبة 0.34% من أصوات الناخبين (11530 صوتا فقط). وهذا لا ينفي أن حزبين فاعلين في الساحة السياسية الراهنة قد رشحاه لتشكيل الحكومة، تحيا تونس والتيار الديمقراطي، ليحظى بتزكية الرئيس قيس سعيد. 
وقد تصاعد هذا الجدل بوتيرةٍ لافتة، على إثر ما صرّح به الفخفاخ في ندوة صحافية، أعلن فيها أنه سيعتمد في مشاورات تشكيل الحكومة على ما أفرزته نتائج الانتخابات الرئاسية، مؤكدا أن 
الحزام السياسي لحكومته سيتشكل من الأطراف التي التقت في الدور الثاني لهذه الانتخابات حول التصويت "المنحاز للقيم التي جسّدها قيس سعيد". واعتبر ملاحظون وفاعلون سياسيون تصريح الفخفاخ هذا اقصاءً لحزب قلب تونس، صاحب الكتلة الثانية في البرلمان، ووصل زعيمه نبيل القروي إلى الدورة الثانية للانتخابات الرئاسية، وكذلك للحزب الدستوري الحر ذي المرجعية البورقيبية. وقد بلغت انتقادات الساحة السياسية لهذا التصريح حد اعتبار الفخفاخ يقود انقلابا ناعما على النظام السياسي برمته، بما يشمل من رئاسات ثلاث ودستور منظم للحكم وبرلمان يعود إليه تشكيل الحكومات والمصادقة عليها. وبالتالي، رفع الفخفاخ بذلك يافطة الإقصاء، ما جعله موضع انتقاد من أطراف عديدة، وصفت الأمر بأنه سوء تقدير وخطوة غير موفقة لرئيس الحكومة المكلف. وقد وصف النائب عن حركة النهضة، سيد الفرجاني، منهجية الرجل وتصريحه بانقلاب رئاسوي وغير دستوري على البرلمان، معتبرا أن "قيس سعيد يستهدف دستور البلاد الذي أقسم على حمايته، وأن تونس تحتاج إلى الاستقرار السياسي. ولكن على أساس الدستور شبه البرلماني وليس الرئاسوي"، على حد قوله. وقال القيادي في "قلب تونس"، أسامة الخليفي، "إن تمشي المكلف بتشكيل الحكومة مبني على الإقصاء، ويناقض تصريح رئيس الجمهورية الذي تبرأ من حكومة الرئيس، وحمّل المسؤولية للرئيس المكلف". ويذهب إلى هذا المنحى فاعلون سياسيون آخرون، متسائلين بشأن الجدوى من الانتخابات التشريعية، وخلفيات إقصاء البرلمان، أو ربما الشروع في إسقاطه، وأسباب التمسّك بتشكيل حكومة رئاسية، والحال أن الغالبية، وما تردّت إليه الأوضاع في تونس، تطالب بحكومة وحدة وطنية.
ويرى متخصصون في القانون الدستوري، على غرار أمين محفوظ، أن منهجية الفخفاخ استدعت منطقا انتخابيا تجاوزه الزمن، وكشفت التفافا على المنطق البرلماني، وبالتالي هو (الفخفاخ) يبحث عن مشروعيةٍ لم يستطع اكتسابها بالانتخابات وغطاء سياسي يفتقده داخل البرلمان. وقد وصل الأمر إلى إعلان مخاطر عديدة لهذه المنهجية، أبرزها تقسيم التونسيين بين من مع قيس سعيد ومن ضده. إضافة إلى توريط رئيس الجمهورية الذي قال، في بيانه أخيرا، إن الحكومة المرتقبة "لن تكون حكومة الرئيس، بل هي الحكومة التي سيمنحها مجلس نواب الشعب الثقة". مفاجأة هذا المسار كذلك جاءت بعد يومين من حركة النهضة في موقف وصف بأنه حادّ على غير ما اعتادته الحركة، وهو "إما توسيع قاعدة المشاركة، أو الذهاب إلى انتخابات مبكرة"، حيث أعلن مجلس شورى "النهضة" عن موقفه من هذا المسار الذي انتهجه إلياس الفخفاخ، ومفاده رفض الإقصاء والتمسّك بتوسيع قاعدة المشاركة لبلوغ حكومة وحدة وطنية، تضم أوسع طيف من الأحزاب، وبذلك تدخل البلاد مسارها الثالث، فتذهب في طريق مجهول.
وقد فسّر مجلس شورى "النهضة" موقفه في بيان ركّز على أمرين، السؤال عن الشرعيات التي 
يجب أن يلجأ الفخفاخ إليها، وأي تحالف حكومي سيدخل الفخفاخ البرلمان لنيل الثقة، وما خفي في الأمرين هو الخوف من هيمنة الرئيس على المشهد، وانعكاسها على توازنات مجلس النواب. وقد أعلن رئيس "النهضة"، راشد الغنوشي، في انعقاد مجلس الشورى، أن الرئيس المكلف يستمد شرعيته من البرلمان، لا من شعبية رئيس الجمهورية. وعليه تشكيل حكومته في إطار احترام الدستور وصلاحيات البرلمان والصلاحيات المخولة له كذلك رئيس حكومة مكلف. وقد دعت "النهضة" صراحة الفخفاخ إلى إعادة النظر في منهجيته، سعيا إلى توسيع المشاورات، لتشمل حزب قلب تونس، وبقية الكتل البرلمانية الأخرى. ويرى متابعون أن الحركة استفادت من تجربة مسار تشكيل حكومة الحبيب الجملي، وأن الاقتصار على حكومة مسنودة بأحزاب الخط الثوري لن تنجح، وستسقط بمجرد الاختلاف بين حزبين. وهو ما جعلها تمد يدها من جديد إلى حزب قلب تونس "ردا لجميله إبّان عملية انتخاب رئيس مجلس النواب راشد الغنوشي". هذا الموقف لحركة النهضة هو إعلان صريح ومباشر بأنها لن تقبل سحب البساط من البرلمان لصالح رئاسة الجمهورية، ولن يُصاغ تقليد جديد يجعل من الرئيس صاحب الأمر في نظام سياسي، يقوم على ثلاثة رؤساء، وللبرلمان فيه نصيب من السلطة والقوة، فلا مجال بالنسبة إليها لنزع الشرعية من البرلمان، ما وضع الفخفاخ ومن خلفه قصر قرطاج "أمام حتمية اتخاذ قرار من اثنين، إما المغامرة بالذهاب إلى انتخابات تشريعية مبكرة ستحمل خصما عنيدا لكليهما، الحزب الدستوري الحر، أو القبول بالعودة إلى شرعية المجلس التي لن تتم من دون إلحاق "قلب تونس" بالمشاورات.
وتعلن حركة النهضة صراحة تصدّيها لكل محاولات عزلها، والمناورات التي قد تنتهي بسحب الثقة من رئيس البرلمان، وما لم تعلنه هو بداية الصراع القادم مع رئاسة الجمهورية. فهل يقوم الفخفاخ بخطوة إلى الوراء ويخلع جلباب الرئيس، أم يمضي إلى مغامرةٍ محفوفة بفخاخٍ عديدة، ومخاطر لا أحد يعلم مداها، أقلها سقوط حكومته وحل البرلمان؟
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
محمد أحمد القابسي

كاتب وأكاديمي وشاعر تونسي

محمد أحمد القابسي