تونس.. حرب على الفساد أم مناورة؟

تونس.. حرب على الفساد أم مناورة؟

06 يونيو 2017
+ الخط -
"الفساد أو الدولة، إما الفساد أو تونس".
هكذا تحدث رئيس الحكومة التونسية، يوسف الشاهد، يوم 24 مايو/ أيار في خطاب ألقاه بعد ساعاتٍ من بداية ما وصفته وسائل الإعلام بحربٍ على الفساد. منتصف يوم الثلاثاء 23 مايو، تواترت الأخبار بشأن اعتقال شفيق الجراية أحد أباطرة الاقتصاد التونسي، والمعروف بنفوذه الكبير في مجالي السياسة والإعلام. سرعان ما تأكدت صحة الخبر، وتبعته أنباء عن اعتقالات أخرى، شملت رجال أعمال ومهربين.
أسعدت هذه الأنباء أغلب التونسيين، كما أنّها جعلت وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي تشتعل حماساً. أصبح كثيرون يتحدثون عن "عملية أيادي نظيفة" تشبه التي عرفتها إيطاليا أوائل تسعينات القرن الماضي. لم تتأخر الدعوات إلى مساندة الحكومة والالتفاف حولها في حربها على الفساد والفاسدين. قليلون هم الذين لم يتحمّسوا كثيراً لهذه "الحرب"، ليس لأنهم مع الفساد، بل لعدم ثقتهم في حكومة يوسف الشاهد ونياتها. ينبني هذا التوجس على عدة معطيات، منها السابقة للحملة وأخرى تتعلق بتوقيتها وشكلها وحصيلتها.
من بين التهم التي كانت توّجه لكل حكومات ما بعد الثورة تساهلها مع الفساد وعدم جدّيتها في التصدي لشبكاته وآلياته ورجالاته. بل إنّ كثيرين يتهمون الأحزاب الحاكمة (نداء تونس وحركة النهضة) بأنها استوعبت كبار الفاسدين، وانتفعت بتمويلاتهم لحملاتها الانتخابية في مقابل منحهم الحصانة، وحتى مناصب قيادية في هياكلها وفي أجهزة الدولة.
المفارقة الغريبة جداً في هذه "الحرب على الفساد" أنّ الأحزاب الحاكمة والرئاسات الثلاث (منهم يوسف الشاهد) ما تزال تضغط بكل ثقلها من أجل تمرير قانون مصالحة مع رجال أعمال وموظفين متورطين في قضايا فساد زمن حكم بن علي. هذا القانون الذي عرضه رئيس الجمهورية على البرلمان أواخر سنة 2015 يلقى معارضة واسعة وشرسة من منظمات المجتمع المدني وعدة أحزاب، ما عطّل عرضه على التصويت والمصادقة عليه. كلّ هذا الحماس الشعبي وكل حملات الدعاية لهذه الحرب التي تقودها الحكومة على الفساد لم يمنعا رئيس الجمهورية والائتلاف الحاكم من المضي في سعيهم إلى تبييض صفحة الفاسدين، وهم يستعدون لطرح القانون مرة أخرى للنقاش في لجنة التشريعات يومي 31 مايو/ أيار و1 يونيو/ حزيران 2017.
اقتصرت قائمة الموقوفين على تسعة أسماء، أغلبهم مهرّبون معروفون منذ سنوات طويلة للناس العاديين، فما بالك بالحكومة وأجهزتها الأمنية! حتى نوعية السلع المهربة تطرح أسئلةً حول جدية الحكومة: فواكه جافة، مكيفات هواء، سجائر.. إلخ. كما أنّه لم يتم إيقاف أي موظف عمومي، على الرغم من أنّ المنطق يقول باستحالة تكوّن شبكات تهريب ضخمة ومستقرة بدون تواطؤ عاملين في الجمارك وأجهزة الأمن والمراقبة الاقتصادية.
الاسم الأبرز في القائمة، والذي ألهب حماسة المواطنين التونسيين، وهو شفيق الجراية، لم يتم إيقافه بتهم فساد، كما راج في وسائل الإعلام، بل لأسباب مختلفة تماماً، أي الاعتداء على "أمن الدولة الخارجي والخيانة والمشاركة في ذلك ووضع النفس تحت تصرف جيش أجنبي زمن السلم". وما يثير الشكوك أكثر في نيات الحكومة هو عدم تعرّضها لأي واحد من رجال الأعمال الكبار الذين لم يسدّدوا القروض التي حصلوا عليها من البنوك العمومية، ولا المتهربين ضريبياً أو المشتبه فيهم بتبييض أموال وتهريب العملة الصعبة.
خلال العشرة أيام التي سبقت بداية الحرب، تلقى الائتلاف الحاكم عدّة ضربات حشرته في الزاوية. الأولى هي المسيرة الكبيرة التي نظمتها حملة "مانيش مسامح" (المناهضة لقانون المصالحة ) يوم 13 مايو/ أيار، والتي جمعت منظمات مجتمع مدني وأحزاب معارضة ومستقلين. أكدت هذه المسيرة أنّ جبهة الرافضين لقانون المصالحة ما انفكّت تكبر ويتعاظم تأثيرها في الرأي العام. الضربة الثانية هي جلسة الاستماع العلنية لشهادة عماد الطرابلسي التي نظمتها هيئة الحقيقة والكرامة يوم 19 مايو، إذ تحدث عن معلومات كثيرة، كشفت شبكات فساد عديدة. الضربة الثالثة هي التصعيد الحاصل في اعتصام الكامور المطالب بالتشغيل، وبتخصيص جزء من مداخيل الشركات البترولية لتنمية محافظة تطاوين. قام المعتصمون يوم 21 مايو بتعطيل محطات ضخ النفط، ما أدى إلى تدخل قوات الأمن واندلاع مواجهاتٍ عنيفة، أسفرت عن مقتل محتج يوم 22 مايو، وخلّقت جواً ينذر بالأسوأ.
كلّ المعطيات التي أسلفنا ذكرها، تجعل كثيرين يعتقدون أنّه ليست هناك حرب على الفساد، بل مناورة تقوم بها الحكومة لتحقيق عدة مكاسب: التعاطف الشعبي، قطع الطريق أمام المناهضين لقانون المصالحة، التغطية على الاحتجاجات الاجتماعية التي ما انفكت تتعاظم في الأشهر الأخيرة، تلميع صورة الحكومة في الخارج، ترضية رجال الأعمال الذين يشتكون من منافسة المهربين لهم..
تحظى حكومة يوسف الشاهد اليوم بتأييد شعبي كبير على خلفية الاعتقالات. ستكون هذه الشعبية أكبر دعم، إذا ما كانت الحرب على الفساد حقيقية، وقد تتحول إلى موجة غضب وسخط، إذا ما تبيّن أنّ الأمر مجرد زوبعة في فنجان.
83F7440E-33DF-4507-85BB-D04DDAC766A9
83F7440E-33DF-4507-85BB-D04DDAC766A9
محمد رامي عبد المولى (تونس)
محمد رامي عبد المولى (تونس)