تلك التقارير التي تحكمنا

13 فبراير 2015
+ الخط -
هي اليوم ثابتٌ أساسي من ثوابت السياسة، وتدبير الشأن العام، وهي، أيضاً، إحدى مرجعيات تقييم السياسات وتوجيه الدول والحكومات. إنها التقارير الدولية التي تتعدد مضامينها، وتختلف جهات إصدارها، وتتنوع شبكات قراءتها، والتي تحمل، في النهاية، لبلداننا تصنيفات في مختلف أوجه الحياة العامة.
تقارير تصدر عن وزارات خارجية دول عظمى، مثل تقرير الخارجية الأميركية حول حقوق الإنسان، أو تصدر عن المؤسسات المالية الكبرى، مثل تقرير مناخ الأعمال الذي يُعممه البنك الدولي، وأخرى تصدر عن منظمات مدنية، بصيت دولي مثل "هيومان رايتس ووتش" في مجال حقوق الإنسان، أو تقارير "فريدم هاوس" و"مراسلون بلا حدود"، في مجال حرية الصحافة، أو تصدر عن معاهد، مثل تقرير الحرية الاقتصادية الذي تختص به مؤسسة "Fraser".
بعضها صارت له شهرة عابرة للقارات والأوطان، مثل تقرير التنمية البشرية الصادر، سنوياً، عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، أو تقرير منظمة الشفافية الدولية الذي يقدم تصنيفاً للدول، بناءً على مؤشر الفساد، والبعض الآخر يحتفظ بقوة تأثيره على النخب والقيادات السياسية، على الرغم من أنها غير معروفة على نطاق واسع.
لنلاحظ أن جزءاً مهماً من مساحات الحوار العمومي، داخل الدول العربية، بين المعارضات
والحاكمين، ينشغل بمتابعة تصنيفات هذه الدول، ومؤشرات تقدمها، أو تأخرها، في الترتيبات الحديثة للمؤسسات الدولية، حيث كثيراً ما تستعمل هذه التصنيفات حججٍاً لمعارك سياسية وإعلامية طاحنة.
الواقع أن حكومات كثيرة تضع أيديها على قلوبها، وهي تنتظر صدور بعض هذه التقارير، حيث لا يخرج موقفها، بعد ذلك من واحد من اثنين: أن تحتفل بكثير من الزهو والانتصارية بتقدم طفيف على سلم ترتيب معينٍ، أو أن تتجاهل الموضوع تماماً، عندما توضع دولها في مناطق ترتيب غير مشرفة تماماً، وما يحدث إذا اضطرت، تحت إصرار المعارضة، أو الصحافة المستقلة، لتقديم رأيها في الموضوع، فإن عناصر مرافعتها، في هذه الحالة، لا تخرج عن دائرة التشكيك في المؤشرات المعتمدة من المؤسسة صاحبة التصنيف، وعن عدم ملاءمتها السياق المحلي. هذا إذا لم يتم التشكيك، أصلاً، في "نية" المؤسسة المبيتة للمس بمصداقية التقدم الذي تعرفه البلاد، لأسباب سياسية "غامضة".
الوضع "المعياري" والاعتباري الخاص الذي باتت تحتله هذه التقارير الدولية، كإحدى آليات تقييم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والحقوقية والثقافية والسياسية لبلداننا، لا تشكل فقط وجهاً من أوجه العولمة المتزايدة، والتي تقلص أكثر فأكثر الحدود بين "المحلي" و"الداخلي"، وبين "العالمي" و"الدولي"، بل إنها تعبر كذلك عن تحولات طالت بنية القرار العمومي الوطني الذي أصبح في قطاعات ومجالات كثيرة مرتبطاً، بشكل مؤسساتي، بشبكة من الشراكات والالتزامات المتبادلة مع مؤسسات مالية دولية، في قضايا اقتصادية وتجارية، أو مع مؤسسات تابعة لمنظومة الأمم المتحدة في قضايا حقوقية واجتماعية.
كما هو الشأن، مثلاً، بالنسبة للدول المنخرطة، تعاقدياً، في منظومة حقوق الإنسان، حيث تلتزم بالتجاوب مع تقارير فرق عمل الأمم المتحدة المتخصصة، وممثلي أمينها العام، ومع تقارير مجلس حقوق الإنسان الأممي، في باب ما يعرف بالفحص الدوري الشامل.
بات من المفروض على الحكومات الانتباه لكل هذه التقارير المتهاطلة، فجزء كبير منها أضحت له سلطة مرجعية، وبعضها حاسم في قرار المستثمرين الأجانب، وبعضها الآخر محدد في تنقيط المؤسسات الدولية، أو مؤثر في قرار كبريات العواصم الدولية.
كل هذا يفرض على الحكومات، من جهة، برصد قنوات تغذية هذه التقارير بالمعطيات، وبتعزيز المنظومة الوطنية للمعلومات، وتكريس "سلطة" ذات مصداقية واستقلالية، في هذا الشأن. ومن جهة أخرى، يلزمها بتحليل المؤشرات المعتمدة كشبكة لقراءة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وتقييمها.
في المقابل، تكمن مهمة الباحثين ومراكز الدراسات، بالضبط، في إزالة "القداسة" عن هذه التقارير، ونزع طابع "السحرية" عن تصنيفاتها. إذ وراء هذه الأرقام والمؤشرات يكمن ما يسميه الاقتصادي المغربي، نورالدين العوفي، النمط المعياري الواحد، حيث الكثير من الأيديولوجيا والرؤى السياسية التي يُجسدها نظام عالمي للحكامة، يريد أن يدبر العالم على مزاج أسياده الجدد من المؤسسات المالية، مقلصاً سلطات الدولة الوطنية، ومهمات الرقابة السياسية للمنتخبين.
من قال، إذن، أن هذه التقارير لا تحكمنا؟



2243D0A1-6764-45AF-AEDC-DC5368AE3155
حسن طارق

كاتب وباحث مغربي