بلدة عرسال... أو أرياف المشرق العربي

بلدة عرسال... أو أرياف المشرق العربي

10 اغسطس 2014
نزوح سوري من عرسال وعودة إليها (العربي الجديد)
+ الخط -
تتبع بلدة عرسال الحدودية قضاءَ بعلبك، في البقاع اللبناني. ويظن الكثير من اللبنانيين، وغير اللبنانيين، أن عرسال التي يقطنها مسلمون سُنّة هي استثناء عن محيطها الشيعي، منعزلة عن بيئتها، اجتماعياً ودورة اقتصادية وولاء سياسياً، طالما أنها هكذا بعيدة عن السهل، قابعة على السفح الغربي لسلسلة الجبال الشرقية، التي تفصل لبنان عن سورية، وطالما أنها تبدو وحدها تنحاز ضد النظام السوري وحلفائه، أو حتى متمردة على الدولة اللبنانية.

لا ينتبه الكثيرون إلى أن كامل محيط بعلبك والهرمل هو بلا ذاكرة حياة وتجارة وقضاء حاجات سوى مع سورية، خصوصاً مع مدينة حمص، التي كانت أشبه بـ"مركز محافظة" لتلك المنطقة اللبنانية. وتاريخ أهل بعلبك – الهرمل (ومنهم أهل عرسال، بالطبع) هو تاريخ الصلة اليومية مع القصير وجوارها، مع أسواق حمص ومرافقها، مع يبرود أيضاً ومع كل منطقة القلمون. تاريخ من مصاهرات واختلاط ووشائج اجتماعية وثقافية من الصعب تعيين حدود لها أو حصرها. هي علاقات في كل تفاصيل الحياة اليومية، تعليماً وزراعة ورعياً ومهناً حرفية وصيداً وتجارة، بل حتى خبزاً أو استشفاء أو شراء موؤنة موسمية..، وأعراساً وخلافات عشائرية، وصلات قربى، وتواصلاً قديماً، قِدَمَ وجود السكان على طرفي الحدود.

لم يكن أهل قضائي بعلبك – الهرمل يقصدون بيروت أو طرابلس مثلاُ، بقدر اتصالهم الدائم والعادي بجوارهم السوري الحمصي خصوصاً. حتى أنهم في أثناء الثورة السورية، وبغض النظر عن الولاءات السياسية، استبشروا خيراً أن تنتهي القطيعة بين لبنان وسورية، التي حدثت بعد "انتفاضة الاستقلال" وانسحاب الجيش السوري من لبنان عام 2005. قطيعة أحدثت أزمة اقتصادية واجتماعية حادة في تلك المنطقة اللبنانية، تشبه ما أصاب جنوب لبنان بعد عام 1948، إثر إقفال الحدود مع شمال فلسطين، فتعرض الجنوب حينها لضربة اقتصادية قاصمة.

في العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006، لجأ القسم الأكبر من سكان قرى وبلدات بعلبك والهرمل لا إلى زحلة (عاصمة البقاع)، ولا إلى عكار، في شمال لبنان، بل إلى أقاربهم ومعارفهم وجغرافيتهم الأليفة، إلى القصير وحمص وجوارهما. هذا ما يفسر قدرة "عرسال" في أيامنا هذه على استقبال حوالى مائة ألف نازح سوري، أغلبهم من حمص والقلمون، فيما سكانها لا يتجاوزن 35 ألفاً.

الأهم من ذلك، أن عرسال ليست استثناء في هويتها الدينية، فمدينة بعلبك نفسها هي مدينة سنّية وشيعية وكاثوليكية، ونجد بلدات كـ"الفاكهة" هي أيضاً خليط ديني مسيحي وإسلامي وخليط مذهبي شيعي سني، كما في بلدة "العين" و"جديدة" و"القاع". هذا الخليط ليس تجاوراً بين الجماعات، كما قد نشهد في أمكنة أخرى، بل هي هنا "مختلطة" فعلاً ومتصاهرة فيما بينها بكثافة، بل تتميز عن مختلف البيئات اللبنانية، بطبائعها العشائرية، ومزاجها ولكنتها، وذاكراتها الاجتماعية. وحسب لوائح الشطب الانتخابية، فقضاء بعلبك يضم حوالى 55 في المائة من الشيعة، ويتقاسم السنّة والمسيحيون النسبة الباقية.

ليست عرسال استثناء أو خروجاً عن محيطها، وعن تاريخ أهل بعلبك والهرمل وحمص والقلمون، بل هي بهذا المعنى الأكثر استئنافاً لطبيعة تلك العلاقات وذاكرتها، وهي أيضاً في خيارها الوقوف إلى جانب جيرانها وأقاربها السوريين، أكثر انسجاماً لا فقط مع ذاكرتها، بل مع "مصالحها" ومصلحة لبنان ومواطنيه، في التعاضد والتعاطف والتكافل مع الشعب السوري، قبل السياسة وبعدها.

في كل الأحوال، تكشف مشكلة عرسال وحوادثها، عن مدى خطيئة الأيديولوجيا "المذهبية"، التي دفع من خلالها "حزب الله" أهل بعلبك – الهرمل نحو العداوة مع جيرانهم ومعارفهم ومجالهم الحيوي السوري أولاً، ثم مع أهل "عرسال" و"سعد نايل" و"عنجر" و"دير الأحمر" في البقاع، ومع سائر مناطق عكار والشمال اللبناني ثانياً. ثم استجلب هذا التحريض المذهبي الكراهية والعداوة والتطرف عند الآخرين، وفتح الحدود على حرب لا وجه لها، ولا أفق ولا هدف، سوى خراب المجتمعات والعمران وتدمير الحياة.

حكاية تلك البلدة النائية والطرفية، عرسال، هي حكاية أية بلدة من "بلاد الشام والعراق"، ومثل كل قرية في هذا "المشرق العربي". سيكون اسمها على الأرجح كما "عرس آل" (عرش الرب)، مشتقاً من السريانية أو الآرامية أو الكلدانية، وستكون أرضها حبلى بركام المعابد والحكايات والأساطير والشعوب الكثيرة. ستكون منسية من الحكومات، مهملة وفقيرة، مفعمة بالأسى وبالغضب والشعور بالمظلومية والحرمان. وستكون مثالاً على فشل "الدولة الوطنية". هذا الفشل الهائل، الذي نراه اليوم في انفجار كل ريف المشرق العربي، وفي الفوضى الأهلية الدموية، التي تعصف به، وتمزق كل هوية جامعة، وتطيح بكل ذاكرة للتعايش والاختلاط والألفة.

المساهمون