ببلوغرافيا الهدن بين المقاومة وإسرائيل

ببلوغرافيا الهدن بين المقاومة وإسرائيل

26 اغسطس 2018
كل الحروب السابقة انتهت باتفاقات تهدئة (فرانس برس)
+ الخط -
بدا مصطلح التهدئة الأكثر تداولاً هذه الأيام في المشهد الفلسطيني بل اختصر المشهد كله في التهدئة، والناظر لخارطة الأحداث وتسلسلها يجد أن كل الهبّات والثورات والانتفاضات والاشتباكات انتهت بالتهدئة، فما هو العامل المشترك بين سلسلة التهدئة بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي؟ كيف تنتهي التهدئة؟ وما التحول الأبرز فيها وفي إحداثياتها ومساراتها؟

تهدئة بالتعادل
كل الاشتباكات التي حدثت في فلسطين انتهت بالتهدئة، بوقف الاشتباك بغض النظر عن النتائج، التي حكمت بالنظرية الصفرية أو للدقة بنظرية المباريات كإحدى النظريات الناظمة والمحددة لمسار الصراعات الدولية، ويمكن العودة بتسلسل التهدئة وحضورها وترسيخها وتقنينها وترسيمها كضابط ومحدد للعلاقة بين الاحتلال والمقاومة الفلسطينية شعبية كانت أم عسكرية مسلحة لما قبل قيام إسرائيل بأكثر من عقدين من الزمان، فثورة البراق التي اندلعت في 1929 انتهت بتهدئة رغم ما كان فيها من شهداء حينذاك.
بكل بساطة انتهت البراق بتشكيل لجنة دولية لتحدد الحقوق الدينية في حائط البراق وكانت اللجنة برئاسة وزير خارجية السويد الأسبق أليل ولفغرن، وعضوية نائب رئيس محكمة العدل الدولية الأسبق السويسري تشارلز بارد. وبهدف التهدئة، عقد اجتماع ضم ثلاثة من زعماء العرب البارزين وثلاثة من نظرائهم اليهود. وحسب تقرير المندوب السامي إلى وزير المستعمرات "كان الاجتماع ودياً".
لم تصمد تهدئة البراق كثيراً، ففي العام 1936 اندلعت الثورة الفلسطينية الكبرى والتي انتهت أيضاً بالتهدئة لحين انتظار نتائج توصيات لجنة "بيل" بعد توقف الإضراب الأطول في تاريخ الثورة الفلسطينية. وقد أوصت اللجنة الملكية في خلاصة تقريرها الذي رفعته إلى الحكومة البريطانية في 22 يونيو 1937، ونشرته الحكومة في 7 يوليو بتقسيم فلسطين إلى دولتين: واحدة عربية وأخرى يهودية. تطورت النظرية الصفرية هذه المرة ففي تهدئة 29 حُكم بأن البراق للمسلمين، في هذه الثورة أوصت اللجنة بتقسيم فلسطين بين اليهود والمسلمين. هذا الخط التنازلي سيبقى حاكماً لمسارات التهدئة. سنرى لاحقاً انتهاء الاشتباك بأقل مما تقول به نظرية المباريات.

النكبة والهدنة الأولى
حرب العام 1948 أو النكبة انتهت بتهدئة أيضاً، سميت حينها بالهدنة الأولى، وفي 2/6/1948 أبلغت الدول العربية مجلس الأمن موافقتها على قرار وقف القتال، وتوقف القتال بالفعل في 11/6 وعرفت تلك الفترة بالهدنة الأولى. دلالة التسمية بالهدنة الأولى تخلق في الذهن، في الإدراك بأن الأمر سيتدحرج ستكون هناك هدنة ثانية وثالثة حتى يتوقف الباحث والمتابع عن العد، الملاحظة التي ستتشكل لاحقاً أنه في كل تهدئة سيكون العامل العربي الرسمي حاضراً ومشاركاً ودافعاً حتى يصبح الأمر حالة من الترويض العربي للمقاومة الفلسطينية لا للتدخل لوقف الاشتباك فقط.

تهدئة مشتركة 2003
دون الاستغراق في استحضار جولات التهدئة بين المقاومة والاحتلال تاريخياً كانتفاضة العام 1987 وانتفاضة الأقصى وصولاً للحروب الثلاث على غزة والتي انتهت كلها بتهدئة، ولكن الإخراج مختلف، سننتقل لنصل إلى المرحلة الراهنة لننتهي لوضع خارطة لخلاصة مسارات تسلسل التهدئة، أبرز ملامح استدعاء التهدئة في التاريخ المعاصر نجدها بشكل ملفت وواضح، قد بدأ في العام 2003، عندما أعلنت حماس بأنها أعدت ورقة مشتركة مع حركتي فتح والجهاد الإسلامي بشأن الهدنة، وأن الفصائل الثلاثة قد أقرتها.
وقال عبد العزيز الرنتيسي القيادي البارز في حركة حماس حينها إن حركته أعدت ورقة بشأن الهدنة و"قبلتها حركتا الجهاد الإسلامي وفتح". ومن جانبها أعلنت حركة الجهاد الإسلامي أن موقفها بعد انتهاء نقاشاتها الداخلية يتجه نحو التهدئة، وقال محمد الهندي القيادي في الجهاد إن هذه الورقة "تتحدث عن هدنة لثلاثة أشهر مشروطة بوقف الاحتلال والعدوان بكافة أشكاله بما في ذلك الاغتيالات والتوغلات".

أجندة تهدئة 2005
تطور حضور التهدئة لاحقاً، فلم يعد لضبط حالة الاشتباك بين المقاومة والاحتلال، بل باتت التهدئة جزءاً من الأجندة الفلسطينية الداخلية الضابطة للعلاقات البينية، ففي وثيقة إعلان القاهرة الصادرة في مارس 2005 وفي البند الثاني ورد ذكر التهدئة نصاً على الشكل التالي: "وافق المجتمعون على برنامج لعام 2005 يرتكز على الالتزام باستمرار المناخ الحالي للتهدئة مقابل التزام إسرائيلي مُتبادل بوقف كافة أشكال العدوان على أرضنا وشعبنا الفلسطيني".
باتت التهدئة جزءاً من المشهد، وما بعد الانقسام لن يعود حضور التهدئة بالاشتراك بين الفصائل أو بالإجماع أو بالتوافق أو باشتراط الكل الفلسطيني، سنرى تهدئة منفردة متفردة، التحول سيتضح لاحقاً ما بعد الانقسام، ففي العام 2008 وتحديداً في 23 أبريل/نيسان 2008 جدد رئيس الوزراء "المُقال" إسماعيل هنية مواقف حركة حماس من التهدئة الشاملة والمتبادلة التي يتم الاتفاق عليها بين حماس والاحتلال الإسرائيلي بوساطة مصرية، والقبول بدولة فلسطينية على الأراضي المحتلة عام 1976 تشمل الضفة والقطاع دون عزل منطقة عن أخرى، مؤكداً على ضرورة أن يخضع أي اتفاق لاستفتاء شعبي.
وكان هنية قد أكد آنذاك وأثناء حفل افتتاح مستشفى جديد للأطفال بغزة، أن حركته تؤيد تهدئة متبادلة وشاملة مع إسرائيل قائلاً: "آليات التنفيذ مرهونة بوقف العدوان ورفع الحصار عن قطاع غزة وفتح المعابر، وشدد هنية على أن أي تهدئة يمكن لحركته أن توافق عليها لا بد وأن تكون مرهونة بالإجماع الوطني أي بموافقة فصائل المقاومة الفلسطينية". استحضار ما قاله هنية نصاً غايته أن التهدئة كانت مشروطة بالإجماع الوطني وبرفع الحصار وتستدعي الدولة الفلسطينية وتشمل الضفة وغزة، والأهم أن يخضع أي اتفاق لاستفتاء شعبي. بعد عقد من الزمان ستتلاشى هذه الواجبات من خرائط التهدئة، ستتآكل المطالب أو الشروط الفلسطينية، سيصبح الأمر فقط رفع الحصار وفتح المعبر ووقف التصعيد، سيغيب الإجماع وتغيب الضفة وتغيب الدولة وتستبدل القضية من البعد السياسي إلى البعد الإنساني.

من التهدئة للتسوية
انتهت حرب العام 2012 بتهدئة وكذلك حرب العام 2014. في الأولى كانت الرعاية دولية، في الثانية اكتفت الأطراف بمصر فقط، لاحقاً ستصبح التهدئة كمدخل للتسوية السياسية والشروط ستصبح مدة زمنية، ففي آذار/ مارس 2015 كشف منسّق الأمم المتحدة الخاص لعملية السلام في الشرق الأوسط المنتهية ولايته روبرت سيري، عن مبادرة جديدة تتضمّن هدنة بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل لمدة خمس سنوات، وأطلق عليها "استراتيجية غزة أولاً"، وبيّن أن “الاستراتيجية الجديدة يجب أن تكون طويلة الأمد لأربع أو خمس سنوات". هذه ليست تهدئة هذه تسوية سياسية، إن ببلوغرافيا التهدئة تعني الضغط على المقاومة من أجل الانتقال من التهدئة إلى التسوية، كما يجري هذه الأيام.

المساهمون