الرئيس دونالد ترامب، والذي سبق أن صنّف نفسه بـ"العبقري المستقر العقل"، لا يرى في رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي سوى "إنسانة مجنونة". وهي لا ترى مكاناً مناسباً للرئيس سوى "السجن"، كما رددت بيلوسي أن "الرئيس شخص مختلّ عقلياً لا يصلح للرئاسة، ويحتاج إلى تدخل عائلته لمساعدته وإنقاذ البلاد". وكررت أكثر من مرة عبارة: "أنا أصلي من أجله ومن أجل أميركا". كما هاجمته مجدداً يوم السبت الماضي، بسبب تخليه عن فرض رسوم جمركية على المكسيك، معتبرة أن "التهديدات ونوبات الغضب ليست طريقة للتفاوض حول السياسة الخارجية".
من جهته، لم ينجُ وزير الخارجية السابق، ريكس تيلرسون، من انتقادات ترامب الذي وصفه بأنه "رجل كسول وأبله"، وذلك بعد انتقاد تيلرسون الرئيس الأميركي، قائلاً عنه "إنه رجل غبي".
هذه عيّنة من مفردات القاموس المتداول على أعلى مستويات السلطة الأميركية، مع انحدار مستوى الحرب السياسية والإعلامية اليومية بين البيت الأبيض ومناوئيه. وقد يبدو هذا التراشق ضئيلاً مقارنة بما يتوقع أن تشهده حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية العام المقبل بين ترامب وخصومه، لا سيما إذا رافقتها إجراءات محاكمة الرئيس في الكونغرس، التي من شأنها جعل الاشتباك أكثر شراسة ودونية.
الانزلاق إلى هذا الدرك ليس وليد اللحظة، ولا هو من إفرازات رئاسة ترامب لوحدها، ولو أنه مرتبط إلى حدّ بعيد بأسلوبه وبالتحقيقات حول التدخل الروسي بالانتخابات الرئاسية لعام 2016، وتوتراتها. لا جدال أن ترامب رجل "صدامي"، كما وصفه أحد محاميه، رودي جيولياني. وسبق للرئيس الأميركي أن فتح معارك مع من كانوا محسوبين عليه وعملوا معه في بداية عهده، موسّعاً دائرة خصومه، ثم جاءت التحقيقات الروسية لتصب الزيت على النار، ما زاد توتر الأجواء وتأزم الخطاب الذي خرج عن دائرة السجال السياسي المقبول إلى دائرة التجريح الشخصي. بعدها حصل التصعيد بعد صدور تقرير المحقق روبرت مولر وما فتحه من احتمالات حول مساءلة البيت الأبيض أمام الكونغرس. لكن جذور هذا التدني أعمق من ارتباطها بتأزم اللحظة الراهنة ومناخاتها الاستفزازية، بل تتصل بأزمة سياسية تراكمت عناصرها على مدى فترة طويلة، متعلقة بدور الإدارة الأميركية وعجزها عن الأداء والتطرّف.
يكمن أساس الأزمة في طريقة المقاربة لدور الدولة، بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي. الأول يؤيد تحجيم البرامج والمعونات الاجتماعية في الموازنة، أما الثاني فيشدّد على توسيعها باعتبارها بوليصة تأمين لضمان التوازن بالحد الأدنى وبالتالي الاستقرار. وتاريخياً حكمت التسوية بينهما، لكن مع تغوّل القوى المالية التي أدت إلى أزمة 2008، تآكلت التسوية لصالح تزايد تمركز الثروة في يد القلة، في وضع شكّل أحد زوايا الأزمة المتفاقمة.
العجز خصوصاً في الكونغرس، عن معالجة المشاكل والإصلاحات الملحّة، تحول إلى ظاهرة، فقضايا هامة وحيوية مثل موضوع الهجرة والرعاية الصحية والإصلاح الضريبي وغيره، لا تزال معلقة منذ سنوات. السبب أن كلا الحزبين يرى الحل بعدسة مختلفة ويصرّ في معظم الحالات على موقفه من دون تنازل. وانسحب هذا التباين على السياسة الخارجية ودور الولايات المتحدة في العالم، تحديداً في عهد ترامب، ما أصاب عمل السلطة باختلال.
أما التطرف فقد بات الوجه البارز في المعادلة السياسية، خصوصاً أن رواسبه كامنة. وأدى ذلك إلى بروز غضب ضد الأقليات مع عودة الحياة إلى حركة "تفوق البيض" العنصرية، إلى جانب صعود اليمين المتطرف والمتزمت، والذي صارت حساباته تؤخذ في الاعتبار عند صياغة القرارات. وفي ظلّه انتعشت الشعبوية والقومية، وبات لها منظّروها ودعاتها.
وجاء ترامب ليزيد الأمور سوءاً. معه تحوّل الانفلات في الخطاب إلى نمط خارج عن السيطرة. وهو مرشح للمزيد من التصعيد، يقابله نزوع متنام إلى أقصى اليسار الديمقراطي ــ الليبرالي. خندقان لا يجمع بينهما غير التنافر والإصرار على الحسم الأحادي الجانب. لذلك لا يبالغ مراقبون في إبداء خشيتهم عندما يقولون إن أميركا تقف الآن على مفترق طرق وأن انتخابات الرئاسة المقبلة ستكون من النوع الفارق والفاصل في تاريخها.