اليد الأخرى

اليد الأخرى

09 اغسطس 2017

(ياسر صافي)

+ الخط -
أقل ما يجب أن يخصّص يوم عالمي لهؤلاء الذين طالما شعرت بالخوف منهم، وانشغل عقلي بتصوراتٍ لا وجود لها، وكالت نفسي الاتهامات لهم، وهم منها براء. ولكن عليّ أن أُلقي بالعتب واللوم أولاً على من علمنا أن السائد والكثير هو الصواب، والمنشقّ عن الجماعة مجرم آثم، واقتصرت نصائحه على أننا سنكون مؤمنين إن نحن استخدمنا يدنا اليمنى دوماً؛ لأنها تفعل الخير دائماً، وننسى تماماً أن هناك قلة يستخدمون اليد الأخرى، لكنهم أبرياء إلى درجة أن ترثي لهم، وعظماء إلى درجة أن تنحني أمامهم.
لست أقصد الشرع، حيث نصحنا الرسول"ص" بقوله: "يا غلام، كل بيمينك". ولكنهم علمونا بعد ذلك أن اليد الأخرى تستخدم في الشر، ولا تُقدم إلا على الخبائث، وأن من يستخدمونها سيُحرمون من الجنة ونعيمها، وأنهم نهمون للطعام، لأن الشيطان يأكل معهم، وأنهم يبطشون بها وبأقرب الناس إليهم، فصارت نظرتنا إليهم على أنهم ليسوا أسوياء، وكأن ما يفعلونه جريمة، وليس تكويناً داخلياً يحدث مع الجنين وهو في بطن أمه، حيث أثبتت الدراسات العلمية أن الأسبوع العاشر من عمر الجنين يحدّد أي يد سوف يستخدم طوال حياته، والمحزن بالنسبة لهؤلاء أنهم عرضة للحوادث؛ لأن نظام الحياة قد تم تصميمه لمن يستخدمون اليد اليمنى في الغالب.
وفقط لا غير، ظهرت دراسة بريطانية قديمة ذكرت أن الإنسان القديم (قبل حوالى مليون عام) كان أعسر، فعثر على أدوات وأسلحة كان يستخدمها، وأن استخدام اليد اليمنى هو السلوك الشاذ، والذي تطور مع تقدم الزمن، حتى قل عدد الذين نصفهم عُسراء، لكن هذا لا ينفي أن اليد اليسرى يلجأ إليها اليمينيون، عند ارتكاب مخالفة أو محاولة ارتكاب جريمة، فأصدقاء العمر كادوا لصديقهم في رائعة ألكسندر دوماس "الكونت دي مونت كريستو"، والتي تحولت إلى فيلم عربي، وكانت المكيدة كتابة رسالة إلى الوالي باليد اليسرى لإخفاء صاحبها، تشي بالصديق، وبأنه يخطط لقلب نظام الحكم. وكانت النتيجة أن يُدخل هؤلاء الشرذمة صديقهم السجن. أما عادل إمام، ومع صديقه في السينما سعيد صالح، فقد ناداه بلقب "يا أشول"؛ لكي ينبهه إلى ضرورة التوقيع بيده اليسرى على ورقةٍ قد تدينه، لو قدّمت بتوقيعه الحقيقي إلى العدالة، وكل منهما أفّاق يبحث عن صاحب اسمه المال.
مبهج للنفس والروح أن يُخصّص يوم من شهر أغسطس/ آب لهؤلاء، كما يجب أن يخصّص يوم من كل عام لنحتفل بفئات نادرة حولنا يحملون صفات جينية ليس لهم ذنب، سوى أنهم حملوها كطفرات، ويتعرّضون للاضطهاد والتهميش، ومنهم من يعرفون بأعداء الشمس "الألبينو". وهؤلاء لم نتوقف عن أن نخاف منهم، حين كنا صغاراً بسبب منظرهم المخيف في نظرنا، وما حاكه لنا الكبار عنهم من أساطير وخرافات، وبأنهم ينامون طوال النهار، ويخرجون في الليل لينقضوا على أعناق الأطفال الصغار الذين لا يسمعون كلام أمهاتهم، والذين لا يخلدون للنوم مبكراً، ويذهبون في الصباح إلى المدرسة ليحفظوا القرآن، ويتدارسوا الأحاديث النبوية، ومنها أن لا يسخر قومٌ من قوم، وأن لا فرق بين عربي ولا أعجمي إلا بالتقوى.
هذا اليوم من كل عام يجب أن نتذكّر كم اقترفنا من آثام نحو الآخرين، ونحن نعتقد بأنفسنا الكمال. وعلينا أن نتذكّر في هذا اليوم أن زملاء علماء في المدرسة، حين كانوا صغاراً قد نظروا لهم بشزر، وهم يكتبون بيدهم اليسرى، أمثال بيكاسو، وشارلي شابلن، وأينشتاين. وكانت أوروبا وقتها، وحتى الستينيات، ترى أن استخدام اليد اليسرى يعد مزيةً سلبية، وكان أصحابها يحرمون من المناصب والترقيات بدونية باذخة، علماً بأن هؤلاء الجميلين ولد معظمهم في الربيع وبدايات الصيف، وربط العلماء بين تعرّضهم لأشعة الشمس في بطون أمهاتهم، وحصولهم على نسبة عالية من الفيتامينات، وخروجهم للحياة وهم يستخدمون يدهم اليسرى، اليد الأخرى التي يجب أن نلوّح بها تحيةً لهم.

دلالات

avata
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.