الوزير والشاعر المُعمَّم

الوزير والشاعر المُعمَّم

26 ابريل 2020
+ الخط -
صديقي الذي طالما رويتُ قصصه وأخباره روى لي، وقال:
كنت أخدم العلم (العسكرية) في دمشقَ، في أواخر القرن الفائت، كان مكان خدمتي في شارع المهدي بن بركة، مقابل السفارة الإماراتية، بجانب القيادة القطرية العتيدة، ولا تسألني ما اسم ذلك المكان، لأني لا أريد فضح أسرارنا العسكرية، لتفويت الفرصة على الأعداء المُتربّصين بالوطن، لذلك لن أعطي إحداثيات المكان أكثر، أسوةً بالمطار السرّي الذي لا يعرف أحدٌ مكانه، ولا حتى الطيارين والفنيين الذين يستخدمونه.

على كل حال خدمتي العسكرية كانت مريحة، وهي عبارة عن دوام إداري، أداوم كأي موظف، حتى الساعة الثانية بعد الظهر، ولديّ وقت فراغ كبير، أقوم بتزجيته بالقراءة، ومتابعة الأنشطة الثقافية في العاصمة، ولم أترك نشاطاً يعتب عليّ في المسرح أو السينما أو الأدب أو الفن التشكيلي إلا وحضرته.

شاهدت مسرحيات بعدد شعر رأسي، قبل أن أصبح أصلعَ جزئياً، في الحمرا والقباني، والمسرح الدائري في المعهد العالي، وفي كلية الهندسة، وتابعت معارض في نصير شورى والسيد وتابعتُ السينما من خلال النادي السينمائي وصالة الكندي، وكذلك أمسيات اتحاد الكتاب العرب في المزة، ومحاضرات المراكز الثقافية، وخاصةً في "أبو رمانة"، حيث كانت له نشاطات مميزة فعلاً، وباعتبار أنني مولع بالمشي وبيتي المستأجر في حي الإخلاص ليس بعيداً، فكنت أذهب ماشياً وخلال دقائقَ أكون في المركز..


وهناك تعرفت على كثير من الأصدقاء والصديقات، وتوطدت صداقتي مع مصورة ضوئية من الشام، لمستُ من خلالها جمال اللهجة الشامية وسماتها، وكانت تهتم بالأبراج، فسألتها من أيّ برج أنت؟
فقالت: عليك أن تحزر؟
قلت: من برج الدلو.
قالت: "سقيتك شي؟"
قلت: إذن من برج العقرب.
قالت: "قرصتك شي؟"
قلت لها: عجزت.. من أيّ برج؟
قالت: من برج الثور.
فقلت لها بنفس أسلوبها، ومطّ كلامها: "نطحتيني شي؟".

يتابع صديقي ويروي قائلاً: حدثت معي أمور كثيرة، أثناء حضوري للنشاطات الثقافية، ومنها أني حضرت يوماً محاضرة بمناسبة ذكرى وفاة أحد الفنانين، وأنا أهمّ بالصعود إلى قاعة المحاضرات في مركز ثقافي "أبو رمانة"، استوقفتني إحداهن وقالت: مرحبا.. إذا سمحت قاعة المحاضرات فوق؟
أجبتها مندهشاً: أهلاً فنانتنا الغالية.

"وكانت في عز شبابها". مددتُ يدي نحوها مصافحاً، فمدّت يدها، وأسلمتني رؤوس أصابعها. وأردفت: نعم القاعة فوق.

أخذنا نصعد درجات المبنى الضيقة، نحو القاعة لأعرف عند بدء المحاضرة أن الفنان المُحتفى بذكرى موته هو جَدّها لأمها، ولتلهمني بمصافحتها بضعة أبيات كتبتها، وأنا أتابع المحاضرة، لكنْ أتابعها بنظراتي أكثر، وقلت:
صافحتُها ويدايَ قد لمستْ حريرْ
وسمعتُ شدوَ حدائِها شدوَ الخريرْ
ينسابُ فيَّ كجدولٍ عذبٍ نميرْ
كيف السبيلُ إليكِ بل أين المسيرْ
قد صاغكِ الرحمنُ آية حُسْنِهِ
حتى يُقالَ تباركَ الربُّ القديرْ

انتهت المحاضرة، وللأسف لم أتمكنْ من رؤيتها، لإعطائها الأبياتَ، بسبب الزحام.

يتابع صديقي سرده: لا أنسى ما حييتُ محاضرةً، أو بالأصح هو تأبين لشاعر مُعمَّم اسمه: "مصطفى جمال الدين"، أُقيمَ في المكتبة المركزية الضخمة في ساحة الأمويين، بحضور رسمي وشعبي كبير، ضاقت بهم القاعة الرئيسة، وردهات وممرات المكتبة، ووُضعتْ شاشات لنقل التأبين في خارج المكتبة وساحاتها، وكان الموجودون في الخارج "وجلّهم من انتماء طائفي محدد" أضعاف مَن في الداخل.

بدأت مراسم التأبين، وأُعطيتْ الكلمة للوزير الذي يتم كل شيء برعايته الكريمة. تحدث وزيرنا المُفوّه الذي يحمل نياشينَ وأوسمة لم يحملها "هتلر" في زمانه، عن مناقب الفقيد، وسط إعجاب الحضور، ثم عرّج على حادثة للشاعر، وقال على ذمته: مرضَ "مصطفى جمال الدين"، وذهب إلى لندن في رحلة للعلاج، وأثناء إقامته في المشفى، أخذتْ إحدى الممرضات تساعده في أمر ما، فبرز صدرها، ويبدو أنها لم تكن ترتدي حمالة صدر، فانفجرت قريحة الشاعر المُعمَّم وقال فيها: - ودائماً على ذمة الوزير الواسعة - يا حلوة النهدين أفديكِ بالحسنِ والحسين..

ضجّ الحضور، وبعضهم وقف مستهجناً أن يكون شيخهم قد قال ذلك. وبعد دقائق من الهرج والمرج هدأ الحضور، وجلسوا في أماكنهم، وتابع وزيرنا الكلام قائلاً: معكم حق بضجيجكم واستغرابكم، وهذا ما أوضحه شاعرنا عند سؤاله، بأنه شيخ معروف فكيف يقول هذا الكلام؟

فأجاب الشيخ الشاعر: إنه قال يا حلوة النهدين أفديك بالحسن الثاني والحسين.. وكان كلاهما على قيد الحياة آنذاك. فعلا الضجيج والترحيب هذه المرة والتكبير، وكاد يشقّ عَنان السماء.

وروى صديقي وقال: حضرت ذات يوم أمسية شعرية، أثّرتْ بي كثيراً، لشاعر معروف كان يشغل منصب مدير التحرير لإحدى الجرائد الناطقة بلسان الحزب الحاكم، اعتلى المنبر، وسط تجاوب الجمهور، وتعاطفهم مع الشاعر الذي سُجن ظلماً لأشهر معدودة، دون ذنب، بسبب نشر مقال لأحد الكتاب، اعتُبر يومها مسيئاً، للجريدة واسمها الناصع.

قرأ الشاعر قصائدَ كُتبتْ في محبسِه، وعينه تغرغر بالدمع، وزوجته العراقية الموجودة ضمن الجمهور بكت أيضاً، وكفكفتْ دموعها. استغربتُ يومها كيف يُسجَن شاعرٌ، ومدير تحرير، مع ثلة من المحررين والعاملين في جريدة تنطق بلسان الحزب الحاكم، لمجرد نشر مقال قد يكون جريئاً قليلاً.

أنهى صديقي سرده، ووعد أن يتابع في وقت لاحق، لأن في جعبته قصصاً وأحاديثَ كثيرة.