النهضة و"نداء تونس" .. قصّة عشق قديمة

16 فبراير 2015

الغنوشي والسبسي في تونس (11مايو/2013/أ.ف.ب)

+ الخط -

ما من شك أن حزب "نداء تونس" الذي أسسه الباجي قايد السبسي نشأ على خلفية معارضة "الترويكا" عموماً، وحركة النهضة خصوصاً، واستجمع الناس تحت يافطة إنقاذ المشروع الحداثي في البلاد، وحماية المجتمع التونسي من مخاطر ما يسمى أسلمة الدولة وأخونة المجتمع. وقد ساهمت هذه الفزاعة في التفاف آلاف التونسيين حول السبسي. وتمكّن الحزب، في وقت قياسي، من استقطاب عدد مهمّ من الأتباع، من الليبراليين واليساريين، والدستوريين وأتباع النظام القديم، والتحق بهم نقابيون، ومستقلون، ومنتمون إلى المجتمع المدني. وتمكنت هذه الفسيفساء الشعبية المنوعة المناصرة للحزب، أو المتعاطفة معه، من تجاوز اختلافاتها الأيديولوجية والمطلبية، واتحدت في الانتخابات التشريعية، ثم الرئاسية، تحت راية التصويت لحزب واحد، تفادياً لتشتت الأصوات، وتأميناً للفوز الموعود. واطمأن هؤلاء لمقولة السبسي الشهيرة إن "النداء" و"النهضة" خطان متوازيان، لا يلتقيان أبداً، وإذا التقيا فلا حول ولا قوة إلا بالله"، وجاءت نتائج صندوق الاقتراع لتؤكد جدوى التصويت المفيد، وتخبر بتقدم "نداء تونس" في الانتخابات التشريعية والرئاسية.

وذهب قادة في "النهضة" إبّان تأسيس نداء تونس (مارس/آذار 2012) إلى القول، إن الندائيين فلول النظام القديم، وأعلام الثورة المضادة، واشتد التنازع بين الطرفين، عقب اغتيال شكري بلعيد ومحمد البراهمي (2013)، وانضمام نداء تونس إلى جبهة الإنقاذ التي طالبت بتنحي الترويكا عن الحكم. وتسابق الحزبان في تحشيد الشارع، خصوصاً من خلال اعتصام الصمود (ضم أنصار النهضة) واعتصام الرحيل (ضم أنصار النداء وجبهة الإنقاذ)، غير أن حدة المواجهة بين الحزبين آلت إلى الهدوء، عقب اللقاء بين السبسي ورئيس حركة النهضة، راشد الغنوشي، في باريس (15أغسطس/آب 2013)، وأشرف على ترتيبه رئيس الاتحاد الوطني الحر، سليم الرياحي، وهو لقاء تاريخي، لأنه أسهم في نزع فتيل الأزمة بين الطرفين، ومهد لتسويات معلنة، وغير معلنة، بين الشيخين. لعل أهمها الاتفاق على الاحتكام إلى الحوار الوطني، في حل الأزمة السياسية التي شهدتها البلاد سنة 2013. واقتناع حركة النهضة بأن "نداء تونس" حزب كبير وازن في البلاد، يتعين إشراكه في رسم سياسات البلاد، وحل مشكلاتها، على الرغم من أنه لا يحظى بتمثيلية انتخابية في المجلس التأسيسي، وعلى الرغم من أن "النهضة" كانت ترفض، سابقاً، مجرد الجلوس إليه، في طاولة تفاوض واحدة.

من هنا، لم يكن موقف حركة النهضة من "نداء تونس" نهائياً ثابتاً، بل كان موسوماً بالمرونة البرغماتية والتطور، بحسب مستجدات الواقع السياسي ومتغيرات الأوضاع في دول الربيع العربي، فما آل إليه الوضع من احتراب في ليبيا، وانقلاب في مصر، وحرب في سورية، وعودة رموز النظام القديم في اليمن، وتراجع للإسلاميين في معظم الدول الثائرة، دفع ذلك كله "النهضة" إلى التكيف مع الأوضاع الجديدة، وحفزها إلى اعتماد خيار التواصل مع النداء، والانفتاح عليه بدل مواجهته، والتحامل عليه. وقد تجلى ذلك، بشكل لافت للنظر، بعد لقاء باريس، فإثره مباشرة صرح الغنوشي إنه "لا مجال للعزل السياسي في تونس". وفي السياق نفسه، اتخذت كتلة حركة النهضة في المجلس التأسيسي خطوات إجرائية، خادمة لنداء تونس، فوقفت ضد تمرير مشروع تحصين الثورة، ما مكن تجمعيين ودستوريين كثيرين منضوين في "نداء تونس"، وكانوا قد تولوا مناصب قيادية وحزبية في النظام القديم، من استئناف نشاطهم السياسي، ومثلوا قوة استقطاب لصالح حركة نداء تونس. كما أنّ رفض "النهضة" النص على السن القصوى لتولي منصب رئاسة الجمهورية كان يندرج في إطار مغازلة "نداء تونس" وتيسير ترشيح زعيمه الباجي قائد السبسي (89 عاماً) للانتخابات الرئاسية (2014).

ومن ثمّة، نرى أن التقارب بين "النهضة" و"النداء" في مستوى تشكيل الحكومة لم يكن فعلاً عفوياً، بل هو حلقة من حلقات التواصل بين الطرفين، وشكل من أشكال تتويج التشاور بينهما في السر والعلن، في إطار ما تسمى ثقافة التعايش، وثقافة التسويات داخل المجتمع التونسي، ولا ريب أن هذا التحالف ستكون له تداعياته بشكل متفاوت، سلباً أو إيجاباً على الطرفين. فقد اتضح أن القاعدة الشعبية للحزبين لم تكن على رأي واحد في موقفها من إشراك الإسلاميين في حكومة الحبيب الصيد، فمن النهضويين من يرى التحالف مع "نداء تونس" خيانة للثورة، وتنكراً للشهداء ولآلاف المساجين السياسيين الذين ضحوا بحياتهم وأعمارهم، من أجل إطاحة النظام القديم، ومنهم من يرى أن "النهضة" لو لزمت موقف المعارض للحكم الجديد، لتمكّنت من إعادة هيكلة قواعدها، وتوسيع دائرة أتباعها، ولتخلصت من أعباء إدارة الحكم، واستفادت من أخطاء الحكومة، واستثمرتها لصالحها في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة. أما في صفوف نداء تونس، فقد مثل انخراط "النهضة" في الحكومة الائتلافية مفاجأة لعدد مهم من الأنصار، وعلامة إحباط لدى آخرين، وبدا الخلاف واضحا بين الهيئة التأسيسية للحزب والمكتب التنفيذي في هذا الخصوص، فقد ألح الأخير على أن تكون الحكومة سياسية بامتياز، ممثلة برنامج نداء تونس، ومعبرة عن صوت ناخبيه أساساً، مصرين على استبعاد "النهضة" بدعوى أنها حركة ذات خلفية دينية. والثابت أن الاستحقاق الحكومي كشف عن صراع جناحين داخل نداء تونس، يساري/تجمعي يرفض مبدئيا إشراك الإسلاميين في تجربة إدارة الحكم، ويحملهم كل عثرات المرحلة الانتقالية زمن الترويكا، وجناح دستوري/ليبرالي لا يرى حرجاً في الانفتاح على "النهضة"، ومراعاة حضورها المهم في مجلس نواب الشعب، وفي الشارع التونسي، وإشراكها في الحكم تأمينا للاستقرار السياسي، ولأكبر قدر من الالتفاف حول الحكومة الوليدة.

لكن، يبقى حجم المناوئين للتآلف بين الندائيين والنهضويين داخل الحزبين محدوداً، وتأثيره على المدى القريب يبقى مستبعداً، والدليل أن دعوة المكتب التنفيذي الندائيين إلى الاحتجاج على إشراك "النهضة" في الحكم لم تجد التجاوب المنشود، ولم يتجاوز عدد المحتجين بضع عشرات، كما أن مجلس شورى حركة النهضة كان حاسماً في التصويت لصالح مشاركة الحركة في الحكومة الائتلافية. والظاهر أنّ قصّة العشق بين الحزبين قديمة، جديدة وباقية... ولعلّ استحقاقات المرحلة المقبلة ستثبت ازدياد هذا الودّ أو نقصانه أو انقضاءه، وإن غداً لناظره لقريب.

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.