النهضة من الكلبشة

النهضة من الكلبشة

04 اغسطس 2020

تمثال "مصر تنهض" للنحات المصري أحمد عبدالكريم

+ الخط -

انتشر على موقعي التواصل الاجتماعي، فيسبوك وتويتر، تمثال لنحات مصري اسمه أحمد عبد الكريم بعنوان "مصر تنهض". وصاحبت انتشاره موجة عارمة من السخرية والكوميديا والمقارنات بالتماثيل المصرية، الفرعونية، وتماثيل عصر النهضة، وأبرزها تمثال محمود مختار. ولم تخلُ موجة السخرية من حسرة حقيقية، واستياء، وحزن على ما آل إليه مستوى النحت في بلادٍ تمتلك منحوتات أقدم من الزمن، وأجمل من كل ما تُرك من آثار.
استبعد بعض المتابعين أن يكون التمثال جادّاً. ظنّه بعضهم محاولةً للسخرية مما يحدث في مصر. وظنه آخرون حيلةً خبيثةً من فنان خائف، أراد أن يعبّر عن رأيه في أحوال البلد، فنحت هذا التمثال الذي يشبه نعيمة الصغير في دور الكتعة التي تخطف الأطفال الرّضع، وتسبب لهم عاهات مستديمة وتستخدمهم في التسوّل والسرقة والنصب والاحتيال، وهي صورةٌ قريبة بالفعل مما تشهده البلاد، ولا لوم على الفنان الصادق!

استمرّ الجدل حول مواقع التواصل يومين، وشارك فيه فنانون أكاديميون. ونفوا أي علاقةٍ بين التمثال والفن أو مصر أو النهضة أو أي عمل جاد لأي بالغ عاقل مميز مكلف مسؤول. واستمرت الحيرة تنهش عقول المصريين ونهضتهم، إلى أن ظهر الفنان ناحت التمثال في لقاء متميز على تلفزيون عبد الفتاح السيسي (اليوم السابع سابقاً)، وهو اللقاء المرتقب الذي انتظره الملايين، ولم يشاهده أحد. لفت نظري في مداخلة عبد الكريم بالغ تأثّره بالرئيس عبد الفتاح السيسي، إلى درجة أنه لم ينطق بكلمة واحدة خارج قاموسه ومعجمه وسياساته وخطاباته وتوجيهاته، كأنه نحات بخلفية عسكرية، فقال مبدئياً إنه ليس نحّاتاً، وهو هنا يستلهم الرئيس الذي يشغل أكبر منصب سياسي في البلاد، ويقول عن نفسه في فخر إنه ليس سياسياً، في واحدةٍ من أصدق تصريحاته عن نفسه. وتابع عبد الكريم، أو عبد الفتاح، كما تشاء، أنه صنع تمثالاً غير مكتمل، وعلينا أن نصبر، إذا أردنا نتيجة، وأن من يقارنون بينه وبين تمثال محمود مختار غاب عنهم أن تمثال مختار جاء بعد اكتتاب شعبي، وأن الشعب وقتها دفع من جيبه ثمن الفن الجميل. أما الآن، فالظرف مختلف، واللبيب بالإشارة يفهم، فإن لم يفهم اللبيب، أو استعبط ولم يدفع، فسوف يذكره إبراهيم الجارحي، أحد مخبري النظام على "فيسبوك" أن نهضة مختار بفلوس، ونهضة عبد الكريم/ عبد الفتاح السيسي ببلاش، فإما أن ترضى بالكتعة أو تدفع ثمن نهضتك من جيبك.
لم يفت النحات الذي هو ليس نحاتاً أن يخبرنا أن العمل الفني الذي قال عنه إنه غير مكتمل، هو عمل عميق، لا يمكن الناس العاديين أمثالنا أن يفهموه أو يستوعبوه، فهو مثل الإجراءات الاقتصادية غير الشعبوية، والإنجازات السياسية والاقتصادية، غير المعلنة، خوفاً من أهل الشر. وحاولت المذيعة أن تفهم منه ماذا أراد أن يقول في تحفته العميقة، فأخبرها بثقةٍ لا تهتز أنه لم يقصد النهضة التي يعرفها الناس، بل قصد نهضة أخرى، وهي النهضة من الكلبشة، البلد مكلبشة، وتقوم من كلبشتها. والحقيقة أن هذا هو أعمق ما جاء في إطلالة نحّات الضرورة، فمصر بالفعل في "الكلبش"، ولا يمكننا فهم تمثال مصر تنهض إلا من منظور الكلبش. هكذا فقط يكون الفن بالكلبش، النحت بالكلبش، النهضة بالكلبش.. والحقيقة أنني تعاطفت مع الرجل، خصوصاً حين عرفت من المذيعة أن الإخوان المسلمين وراء الهجمة الشرسة على تمثاله، وعرفت منه شخصياً أنه لا يعرف ما المقصود بالإخوان، وأنه كان ممثلاً لمصر في بينالي فينيسيا، وسبق له أن أثار الجدل بأعماله الفنية، وأن وزير الثقافة الأسبق، الفنان فاروق حسني، رأى بعض أعماله، وأبدى اعتراضه على كونها "مقلوبة"، فإذا الفنان يردّ بثقة، بأن الدنيا هي المقلوبة، ونحن من يعدّلها. وأخيراً، ختم بأن له الحق في أن يفعل ما يشاء، فإذا وفقه الله، فبها ونعمت، وإذا لم يوفقه، فله الحق في تكسير ما فعل، ولا لوم عليه.