النميمة

النميمة

14 ابريل 2015
+ الخط -
ياء الملكية ضمير قد ينفر منه المنفيون الذين خسروا كل شيء، ويثقلهم بتجريح وإقلاق إضافيين، كأنهم ممتلكات يتناقلها المجرمون عبر القارات. الضمائر، إذا استعرنا مقولة كارلو إيميليو جادّا، "قمل الفكر، وأقذرها ضمير"الأنا"". لا يسلم من التشوهات المثقفُ المنفي (أو اللاجئ أو النازح) في شتات الأراضي التي استطاع أن يلوذ بها، مهما داوى وعيه وأوصد الباب على كرامته لكيلا يدع عيناً ترى جراحه. تتسع المسافة بينه وبين بلاده التي طرد منها، عراقياً كان أو يمنياً أو سورياً أو ليبياً أو إيرانياً... الأفق ملبد، والوقت يمر في المكان الغريب، ويبقى الخوف والضيق وأوهام المراقبة والتوجّس من العقاب لأتفه الأسباب.

نشوء العلاقات "الطبيعية" بين المنفيين أصعب أحياناً من نشوئها بين مَن تبقّى من أهالي بلدانهم التي غادروها. شاع أن يسخر المثقفون في المنافي من بعضهم البعض، وكثيراً ما يمتحنون إخلاص الزملاء من الكتاب والصحفيين بتذكيرهم، كخصوم أولاً، أنهم لا يتجرأون على انتقاد الجهات التي وظفتهم. على سبيل المثال، دخل السوريون، ومن قبلهم الفلسطينيون، شِباك المنظمات غير الحكومية، وكثرت المطبوعات والمنشورات والمواقع الإلكترونية، واعتبرت الصحافة الأدب الطبيعي للديمقراطية الآتية. لنتخيل شاباً أو شابة تبالغ في التشاؤم الذي تنجبه كل الحروب، يردم أوقات الفراغ المديدة بالإنترنت، تنقضي أيام على أرض الواقع قد لا يحيي فيها أحداً تحية بسيطة من كلمتين، يخفي يأسه ويخفي كل علامات يأسه محتملة الظهور، لكنه يرى ضعفه الخاص شائعاً لدى الأغلبية التي تزاول الكتابة والإعلام فيتواطاً على إخفائه والسكوت عنه. التهاون ممالأة للعموم، وبالممالأة يتيسّر الانتساب إلى النادي أو القبيلة وتتكرّس مرة أخرى اللغة التي يروجها التلفزيون. هذا النثر الوظيفي طاغٍ، وتحت لافتة الوضوح الضروري ومقتضيات العصر التكنولوجية والوصول إلى أكبر شريحة من الناس، راجت الكتابة بأسلوب البرقيات، وإذا كان هذا الإلحاح على أولوية التواصل تكفيراً عن ذنب، فقد فتح أيضاً أبواباً إضافية على الضحالة والكراهية، وانتهى الأسلوب الجاهز بمسخ لا يسلي حتى صاحبه.

لنفترض شاباً أو شابة شاباً يفكر على النحو التالي: "أسمع دائماً من يقول: "كلهم سفلة!" السافل يغتاب السافل، فمن يستحق هذا اللقب حقاً؟ عزلتي لا تطاق، والنميمة تؤرقني وتعذبني وتخيفني؛ تؤرقني لأنني، مهما اقتضبت وتفاديت المجابهات فاعتبروني متذبذباً أو جباناً، تعود إلي دائماً أسماء ووجوه تطرد نومي، ولا أتباهى هنا بالأرق تباهي المراهق بما يقرأ، لأن الجميع مؤرقون؛ وتعذبني النميمة لأنها تسيء إلى آلام ذاكرتي، ثم يضاف الحنين إلى الندم والحسرة والخوف وعدم الرضى، ويأتيني قوياً الإحساس بالخطأ الذي لا أستمده هنا ــ للأسف ــ من الصمت ومراقبة نفسي أو مراقبة العالم، وأعايش هذا الإحساس بالخطأ طويلاً ولا أستطيع التخلص منه؛ وتخيفني النميمة لأن هناك بالتأكيد من سيهينه تقييمي الوجيز فيغضب ويتوعد بالانتقام مني شاتماً مستهزئاً".
دائرة الكتاب والصحفيين ضيقة وخانقة، وأحياناً يتعرف المثقفون إلى بعضهم البعض في أوضاع مخجلة حقاً.
الخصومات الشخصية والجدال الصارخ المصاحب حول ما يسمى خلافات في وجهات النظر جدال قديم. الأنداد يتبارزون ويتنافسون، وتظهر الخصومات أحياناً أقبح ما لديهم من سلاطة اللسان. لا يخلو الجدل من إثارة لا تلبث أن تغدو مضجرة ومبتذلة، ثم يترفع الجميع عن المستنقع الصغير ويتباعدون. هذه المنافسات المستعرة كمعارك جانبية صغيرة سبب إضافي في الشعور بالانحطاط العام، وأكباش الأنوات تتناطح وصليل قرونها يعلو على المنصات والشاشات. في هذا الصراع أو ذاك التنافس بين المنفيين، مثقفين وغير مثقفين، مثل معظم الصراعات في الحقول الأخرى، يحكى دائماً كيف ينجح الأوباش. يشتد عود الإرادة المهزوزة، وتتراجع مع هذا الاشتداد الحواس والرهافة، وقد يتقهقر المغترب إلى شكل خاص من البلاهة التي تعطّل حتى المقدرة على الحزن.

وصفنا طغاتنا ومجرمينا بالمرضى والمعتوهين، وكان مثل هذا الوصف أمام فداحة المصائب المتوالية تسفيهاً وربما تعبيراً عن خيلائنا. يقول بعض السوريين: إن ثقافتنا، الشاحبة والجبانة، أبيدت على أيدي الأسُود ( الأسدين الأب والابن والأسود السود التي استجلبها القمع والفقر)، ومجتمعنا المريض يهذي في نار الحمّى، ونحن المرضوضين جميعاً مرضى، ناقهون في ميتم، وكان تفكيرنا مشلولاً غالباً، وبالرغم من كل ادعاءاتنا، لم نفلح دائماً في صون عقولنا من الخضوع والعجز. نحن قضاة ورقباء بعضنا على بعض، نتطوح داخل الأشلاء الممزقة المنتفضة في حركات أخيرةٍ لجسد توقف قلبه عن الخفقان.

المساهمون