الموسيقى التصويرية: أوركسترا تحريك المشاعر

الموسيقى التصويرية: أوركسترا تحريك المشاعر

10 مايو 2015
ألكسندر ديسبلا (تصوير: ديفيد ماكنيو)
+ الخط -

رغم الانبهار الذي ساد أثناء وبعد عرض الأخوين لوميير لأول فيلم في تاريخ السينما، "وصول القطار إلى محطة لاسوت" سنة 1895، في المقهى الباريسي "غراند كافيه"، سرعان ما بدأ إعجاب الناس بالسينما يخفت بعد اعتيادهم على العروض وزوال دهشتهم، إذ ظلّ الفيلم يفتقد الكثير من التأثير في ظل بقاء الصورة صامتة.

أصبح الصوت أكبر هموم السينمائيين الذين أرادوا امتلاك أُذن المشاهد لا عينه فقط. وبعد تجارب كثيرة لإلحاق الصوت بالصورة، خُصّصت أماكن للفرق الموسيقية داخل قاعات العرض، تعزف ألحاناً تناسب القصّة وتحجب الأصوات الصادرة عن ماكنة العرض.

كانت هذه الفرق الموسيقية - التي كان عدد العازفين فيها يزداد بحسب أهمية الشريط - تحاول ما أمكنها خلق جوّ موسيقي يلائم قصة الفيلم، لكن كان هناك الكثير من عدم الدقة أو عدم الانسجام لدى ترجمة أحداث القصة إلى موسيقى مؤثرة، إذ كان العازف يجد صعوبة بالغة في انتقاء موسيقى مناسبة للمَشاهد من دون تفكير مُسبق. ثم أصبح تدخّل المخرج ضرورياً لتحديد الموسيقى المناسبة لعمله، فبحث بدوره عن ملحّن مختصّ يشاركه الرؤية نفسها. وكانت هذه أولى الخطوات الجديّة في مسيرة الموسيقى التصويرية.

وبعد أن نطقت الأفلام في أواخر العشرينيات، لم تبق الموسيقى هي الصوت الوحيد في الفيلم، بل جاورت لغة الحوار؛ متقاطعة معها أحياناً ومتناغمة أحياناً أخرى. هنا، تأتي تجربة الفرنسي كامي سان سان الذي تعتبر موسيقاه من أولى الأعمال التي خُصّصت للسينما، إذ كان يؤلف مقطوعات لبعض الأفلام، بعدما كانت الكلاسيكيات المعروفة مرجعاً أساسياً للأعمال السينمائية.

وظهرت بعد ذلك الموسيقى التصويرية في شكل أكثر تطوراً واكتمالاً من خلال أفلام مثل "كازابلانكا" و"ذهب مع الريح"، التي ساهم ماكس ستينر عبرها في بناء صرح الموسيقى التصويرية بالشكل الذي نعرفه اليوم. بعد الخمسينيات، صار الناس يعرفون مقطوعات الأفلام ومؤلفيها، بل ويستمعون إليها منفصلة عن الفيلم كباقي أنماط الموسيقى الأخرى.

مع الوقت، زادت الحاجة إلى موسيقى تتربّى في حضن السينما نفسها كما زادت الحاجة إلى مؤلفيها، فظهرت ثنائيّات فنية مثل المخرج ستيفين سبيلبيرغ والمؤلف الموسيقي الأميركي جون وليامز، وهو من أهم مؤلفي الموسيقى التصويرية الذين أضافوا الكثير إلى هذا الفن، ودفعوا به خطوات إلى الأمام عبر اقتراحات جريئة أدخلت روحاً جديدة إلى هذا النوع من الموسيقى وعلاقته بالسرد السينمائي.

أمّا الملحن الإيطالي نينو روتا فقد وضع موسيقى لـ 170 فيلماً وتميّز بأسلوبه الشاعري، مثلما اشتهر بمعزوفاته في فيلم "العرّاب" بجزئيه الأول والثاني، وكان قد اقتبس موسيقى الجزء الأول عن تلك التي وضعها سابقاً لفيلم "فورتونيلا". المفارقة أنّ روتا لم يفز عنها بالأوسكار أول مرّة لأنها اعتبرت غير أصلية، ثم فاز بالموسيقى ذاتها تقريباً عن "العرّاب".

وقريباً من الأسلوب الشاعري لروتا، نجد الأميركي جيمس هونر، المتخصص في الموسيقى السمفونية والبحث في التراث الموسيقي الإيرلندي والأسكتلندي، كما اشتهر بمقطوعاته في أفلام "تايتنك" و"قلب شجاع" و"أفاتار".

ومن مشاهير عالم الموسيقى التصويرية الكندي هوارد شور الذي عُرف في ثلاثية "سيّد الخواتم"، وفاز عنها بثلاث جوائز أوسكار، ووضع كذلك الموسيقى التصويرية للعديد من الروائع كـ "صمت الحملان" و"فيلادلفيا".

لاحقاً، استفادت الموسيقى التصويرية من التطوّر الإلكتروني، من خلال استوديوهات تعتمد على برامج معينة، لتجد الأصوات التي تبحث عنها ولم يكن بالإمكان عزفها أو المزاوجة بينها، مثلما هو الحال في الأصوات المصاحبة لأفلام الرعب والحروب.

وفي هذا الاتجاه، يبرع المؤلف الألماني هانز زيمر بمزجه الأوركسترا التقليدية بالموسيقى الإلكترونية. تميّز أسلوب زيمر بابتكاره لمستويات كثيرة لموسيقى الطبول، تلك التي عرفناها في عدد من أشهر الأفلام التاريخية، مثل "المصارع"، و"الساموراي الأخير"، ثم "الملك آرثر"، وارتبط في السنوات الأخيرة بالعمل مع المخرج كريستوفر نولان، من خلال ثلاثية "باتمان"، وفيلم "الاستهلال" و"بين النجوم".

وفي حفل الأوسكار الأخير، رُشّح المؤلف الموسيقي الفرنسي ألكسندر ديسبلا – ونادراً ما حدث هذا- عن عمله في فيلمين هما "لعبة التقليد" و"فندق بودابست الكبير" وفاز عن الترشيح الثاني. ديسبلا هو أيضاً مؤلّف موسيقى فيلمي "خطاب الملك" و"آرغو"، ويجمع أسلوبه بين المدرسة القديمة الأوركسترالية، والمدرسة الحديثة الإلكترونية.

يمكن القول إن مؤلف الموسيقى التصويرية يتحكم في مشاعر الجمهور، إذ يضع ألحانه بعد أن ينتهي الفيلم، فيعرف أين يُبكي أو يُضحك أو يُخيف المُتفرج. أمّا هذا الأخير، فغالباً لا ينتبه أن الذي قاد أوركسترا تحريك هذه المشاعر فيه إنمّا هو مؤلف الموسيقى التصويرية.

دلالات

المساهمون