المغرب ومسألة الاستقلال

المغرب ومسألة الاستقلال

23 نوفمبر 2014
+ الخط -

وجدتني متنبهاً لنظرة المغاربة إلى مسألة استقلال بلدهم عن الاستعمارين، الفرنسي والإسباني، اللذين تعرض لهما الوطن من بداية القرن الماضي إلى وسطه، بعدما وقع في يد الأطماع الاستعمارية الأوروبية لأسباب متداخلة. يحيي المغرب رسمياً وشيئا ما شعبياً في الـ18 من نوفمبر/تشرين الثاني من كل سنة ذكرى الاستقلال. وتتعدد طرق الاحتفال، لكن النظر العميق في مسألة "الاستقلال" هذا تجعلنا أمام مجموعة من الحقائق، بعضها مر مهما كانت زاوية نظر تموقعنا.

"ذكرى الاستقلال" مناسبة لاستحضار التحام إرادة العرش والشعب في نضالهما المتواصل من أجل التحرر من نير الاستعمار وإرساء الأسس الأولى لمغربٍ مستقل وحديث وموحد ومتضامن، بهكذا كلمات وشبيهاتها، طالعتنا نشرات أخبار القنوات والإذاعات الرسمية ومنابر الإعلام (صحف ومجلات ومواقع ..) مساء الاثنين وطوال يوم الثلاثاء الماضيين، الذي صادف الذكرى الوطنية، وكلها تمجد الاستقلال.
رحم الله شهداء الوطن والأرض، أولاً، أولئك الأبطال البسطاء القرويين، وأولئك الرجال الذين تشربوا في قلوبهم وأعماقهم كل معاني الانتماء للوطن وحب الأرض، وبرهنوا على ذلك بالفعل المستميت عقوداً، وقدموا لأجله الثمن باهظاً جدا. أولئك الذين يؤرخ كل شبر من مدن البلاد وقراها ملاحمهم المباركة، إذ لم يألوا جهداً في الدفاع عن البلد ضد المستعمر الذي كان يسرق خيرات البلاد والعباد، ليل نهار، وطوال أكثر من أربعة عقود، بعدما انسل إلى البلد في ليل مظلم وبدعم خارجي (في إطار تقسيم المستعمرات بين القوى الغربية) ولظروف وسياق داخلي، سهل في وجهه المهمة والمأمورية (بسبب التشرذم الذي طبع الإدارة في مختلف جهات البلاد وغياب سلطة الدولة والقانون، حيث انتشر ما يعرف في أدبيات التاريخ بنظام "السيبة"، وعمت سلطة الغلبة للأقوى).
رحم الله الخطابي والحنصالي وأوبسلام وماء العينين وبقية اللائحة الطويلة، رحمهم لأنهم كانوا يؤمنون بخطورة ما يعنيه احتلال الأرض لحظياً، وعلى مستقبل البلد وشبابه، كنزه الأول، وباقي كنوزه المالية والمائية والزراعية والمعدنية والصناعية. لذلك، كانت الاستجابة عندهم، وعند بني جلدتهم وجيلهم، لنداء الجهاد الوطني أمراً مقدساً، لا جدال بخصوصه، إلى أن حدث ما حدث قتل منهم من قتل، ونفي من نفي، وهمش منهم من همش.

لست متخصصاً في التاريخ، ولا تبدو في نظري الحاجة ماسة للتذكير بكل ما حدث من ترسبات تاريخ، حتى جاءت سنة 1956، موعد اعتراف الحكومة الفرنسية باستقلال المغرب بعد سنوات من ما يسمى في أدبيات تاريخ المغرب الحديث بالنضال السياسي وجهاد الحركة الوطنية. وما يهمني، بشكل أهم، في هذه السطور، الوقوف عند حقيقة هذا المفهوم "الاستقلال" وعلاقته بواقعنا الوطني، خصوصاً في مغربنا بعد العقود الخمسة ونيف التي مرت من لحظة خروج المستعمر، والتي تروج الدولة بخصوصها عن طريق إعلامها ومثقفيها ونخبها السياسية وغيرها بأنها كلها كانت فترة لبناء الدولة المغربية الحديثة والموحدة والمتضامنة، كما طالعتنا نشرات الأخبار، يوم الثلاثاء الماضي.

صحيح أنه لا يمكن لاثنين أن يجادلا بأن مغرب اليوم على جميع المستويات ليس هو مغرب الخمسينيات أو حتى التسعينيات. لكن، على مستوى الاستقلال الذي يرمز، من خلاله، إلى انتهاء احتلال الأرض واستقلال القرار تحتاج توضيحات غاية في الدقة. فالمغرب المستقل استقلالا كاملا لم يتحقق بعد. ومن دون إطناب، هناك أكثر من منطقة ما تزال محتلة، بقوة الواقع والمنطق، قبل أن يعترف أحد رسميا أو غيره بذلك. هناك سبتة ومليلية وعدد من الجزر وقضية الصحراء التي ما يزال مصيرها عالقا بين مبادرة الحكم الذاتي التي تقدم بها المغرب ومطالب جبهة البوليزاريو بضرورة الانفصال، حيث وقف المجتمع الدولي، ممثلاً في منظمة الأمم المتحدة، بينهما عاجزا.
وفوق هذا وبعده ثمة سؤال أكثر عمقاً، يتعلق بعمق ولب الاستقلال الوطني. وهو استقلال القرار السياسي وبعده ضمنيا الاقتصادي والثقافي، ويصعب فعلاً الحديث عن وجود دولة في العالم الثالث، أو الذي يسير في طريق النمو وعرضه مستقلة كلياً، سواء بقرارها السياسي والاقتصادي... إلخ، لكن الدرجات بهذا الخصوص تختلف.
في المغرب، تمت مؤشرات تؤكد صباح مساء أن الاستعمار الذي تعرض له، في لحظة توقيع الحماية الفرنسية سنة 1912، وانتهى ظاهريا بخروج الجندي حامل البندقية وقائد الدبابة من الأرض في أواخر الخمسينيات، لم يكن في الحقيقة كذلك، بل الحقيقة أن كل المؤشرات تؤكد أن رجل التربية والتعليم والاقتصاد والإعلام كلهم عوضوا غياب الجندي، ومن ثم عاد الاستعمار لحظة مغادرته من الباب من النافذة. النخبة المغربة مصطلح يلخص مجموع تلك الأجيال التي أدخلتها فرنسا إلى الإدارة المغربية، بعدما تم توقيع ما يسمى بالاستقلال. هذه النخبة هي أولئك الذين سافروا إلى فرنسا أيام الاستعمار، حيث تلقوا تعليمهم في معاهدها وجامعاتها، قبل أن يعودوا إلى المغرب "المستقل"، ويتربعوا في مراكز القرار والنفوذ. ولمن يشك في ذلك عليه أن يلقي نظرة، ولو مقتضبة، على لائحة نخب البلد طوال العقود الماضية وفي الوقت الحالي، وفي جميع المجالات، فجلهم أولئك الذين تلقوا التعليم  في مدرسة القناطر بباريس وغيرها. وقد وصلوا، في السنوات الأخيرة، إلى قمة المؤسسات السياسية والتشريعية وحتى الدينية، على رأسها بعض أحزاب ومقاعد عديدة في الحكومة ونسب قوية في البرلمان بمجلسيه.
وهناك وجه آخر لافت في مسألة علاقتنا بـهذا "الاستقلال" الذي لم يتحقق، يتعلق الأمر بالاستقلال الداخلي. وأعني به الاستقلال داخل البلد، وطنياً وداخل مؤسساتنا الدينية والحزبية والمهنية والنقابية والقضائية والجامعية.
القول الصريح، هنا، أن الدولة، أو ما يسمى "المخزن"، بالتعبير المغربي الشهير، تمكنت كليا من بسط نفوذها، ووضع يدها في كل شيء. فالثقافة تسيَّر بالتعليمات، والأحزاب بات أمر اختراقها مكشوفاً، وبدرجات مفضوحة تبعث على القلق. ولعلها، الدولة، لم تستوعب، بهذا الخصوص وبالشكل المطلوب، أجوبة المواطنين الذين ردوا بتعابير مختلفة على ذلك بالرفض التام، مثلا في انتخابات 2002 و2007، ثم في احتجاجات 2011، بقيادة حركة 20 فبراير الشبابية. أما في المجال الديني، فكل شيء في وسعك أن تتحدث عنه، إلا استقلال رجال الدين، الأئمة والوعاظ والخطباء والمساجد باتوا أحد أبرز الوسائل في الدولة، تحركهم وقت ما شاءت، وكيف ما شاءت، ولأي غرض تريده، وبالطريقة التي ترغب. وعن وضع النقابات المهنية والقطاعية والجمعيات الحقوقية (مع استثناءات طبعا هنا وهناك) وغيرها، فالحديث عن استقلال قرارها الداخلي، في خططها ومشاريعها وحركاتها وسكناتها، أكبر كذبة تضحك القاصي والداني.

لهذا كله، قلت إن ما يصطلح عليه بالاستقلال في المغرب كذب وليس حقيقة، ولمن يشك، مرة أخرى، في ذلك، ويحب ممارسة رياضة تخوين كل من لا يغرد ويعيد الأسطوانات الرسمية في موضوع كهذا، عليه أن يعلم أنه مع حلول سنة 2015 التي نستقبلها بعد شهر سيكون التاريخ الذي مر على غزو مدينة سبتة "المحتلة" قد أقفل القرن السادس، أي 600 سنة بالتمام والكمال.
وللإشارة، تعرضت المدينة الجميلة للغزو الأجنبي، للمرة الأولى والأخيرة، في سنة 1415 من القوات البرتغالية، ومن وقتها لم تعد مغربية إلى يومنا هذا. ولكم واسع النظر.

avata
avata
محمد الوحماني (المغرب)
محمد الوحماني (المغرب)