المافيات تأكل اقتصادنا

المافيات تأكل اقتصادنا

10 نوفمبر 2014
الاطعمة الفاسدة على موائدنا(محمود حويس/ فرنس برس/getty)
+ الخط -
قد يتعجب القارئ عندما يسمع بمثل هذه المصطلحات ذات البعد الإجرامي وهو ‏يقرأ مقالاً اقتصادياً. ولكن عندما نوضّح تلك الجرائم التي ترتكب بحقنا كمستهلكين، ‏وعندما نوضح عملية الإخلال بمعايير إنجاز المشاريع وتضخيم الفواتير، حينها لن يستطيع أي شخص وصف ما يحدث إلا بهيمنة الاقتصاد الإجرامي المافيوي علينا.‏ 
في بلدي احذر أن تقتحم مجالاً محرّماً عليك، وعلى غيرك في الاستيراد، فقد يكلفك ‏الأمر حياتك. وإن رُحمت ستخسر مالك تأديباً لك، حتى لا تتجرأ على تخطي الخط ‏الأحمر المعروف عند بعض المستوردين. فمحرّم عليك أن تستورد القهوة والسكر والحليب الجاف، ‏محرم عليك أن تستورد الحديد المخصص للبناء. واحذر أن تقرب الإسمنت فقد ‏يجعلوه قبرك ويدعّمون بك عموداً من الباطون أو يجعلونك ثابتاً في أساسات عمارة ‏شاهقة.‏
إذاً ماذا ترك المستوردون للتجار العاديين؟ ثم ماذا استورد لنا رجال أعمالنا؟
لقد توجه هؤلاء إلى الصين، فاستوردوا كل رخيص ورديء. وعمموا هذه المنتجات ‏التي لا يستهلكها إلا الفقراء والطبقات الوسطى في بلادنا، ما تسبب في انتشار ‏رهيب لمائتي نوع من السرطان تحصد في كل سنة ما لا يقل عن 60 ألف شخص. ‏لا بل تدخل 44 ألف حالة جديدة كل سنة إلى قائمة المصابين بالسرطان.
أليس هذا هو الإجرام بعينه؟ أليست هذه هي المافيوية التي تسيطر على اقتصاداتنا؟ ‏
هل يعقل أنه في فترة قصيرة جداً ارتفع حجم استيراد الدواء في بلادنا من ‏‏500 مليون دولار إلى ما يفوق 2.5 مليار دولار وأن نسبة كبيرة من هذه الأدوية ‏غير فعالة ولا منافع علاجية لها؟ فقد استبدلت العلامات العالمية الأصيلة بعلامات لا يمكن أن توصف إلا بكونها غير صالحة تماماً لأن تكون علاجاً. وقد ‏رأينا تحقيقات عبر فضائيات عالمية تتحدث عن اتخاذ مافيا الدواء الهند مشتلاً ‏لإجرامها.‏
علماً أن إنجاز مصنع دواء في الجزائر كان يكلف 20 مليون دولار. أي يمكننا أن نقيم ‏بما نستورده ما لا يقل عن 125 مصنعاً للدواء. ما يغنينا عن استيراد الأدوية ذات الاستهلاك الواسع، التي ‏يمكن إنتاجها محلياً.‏
الأدهى في الأمر أن مجالات تدخّل المافيا الاقتصادية عندنا لا تتوقف على الاستيراد أو ‏التصدير، بل وصلت إلى إنجاز المشاريع. فهل يعقل أن مشروع الطريق السيّار ‏الجزائري بدأ بقيمة لم تتجاوز خمسة مليارات دولار، ووصل مع تضخيم ‏الفواتير والفساد الذي نخر فيه إلى ما لا يقل عن 20 مليار دولار؟
وذلك إضافة إلى مشاريع سكنية يتم تلزيمها لشركات صينية تتقاضى أربعة أضعاف الفاتورة المحلية ‏أو الفواتير المشابهة. وقد شاع التقسيم التالي بعد اعتماد فكرة مضاعفة الفاتورة:‏ ربع الكلفة للمشروع، وربع للمؤسسة المنفذة، وربع للوسيط أو الوسطاء، وربع للفاسد أو الفاسدين.‏
علماً أن المشاريع ذاتها يتم إنجازها في بلدان أخرى بمواصفات ومعايير عالمية، أما ‏عندنا فلا يوجد ما يسمى "ضمان حسن الإنجاز" في الطرق السريعة مثلاً، وتزول المتابعة بعد ‏سنة واحدة من انتهاء أي مشروع. واقع أدى إلى ظهور عيوب المشاريع الكبرى بعد سنة واحدة فقط من إنجازها. ما يعني أن الأوان يكون قد فات لمحاسبة الشركات الملتزمة، التي توسّعُ نشاطها وتضاعفُ ‏أرباحها بالفساد والغش.‏
إننا نعيش قمة المافيوية الاقتصادية في الجزائر. مافيوية اشترت مسؤولين ‏وبرلمانيين ونقابيين، وكل من له مسؤولية في الرقابة على مثل هذه المشاريع ‏التي سموها المشاريع الكبرى. إنها بحق مشاريع مافيوية فاسدة استنزفت الفوائض المالية ‏وأهلكت أكثر من 800 مليار دولار خلال سنوات...
إنه الاقتصاد المافيوي الذي ضيّع اقتصاد بلد بحجم الجزائر. وفرض نمطاً ريعياً عوضاً عن دعم الاقتصاد الصناعي والفلاحي والسياحي ومتعدد التخصصات. إنه اقتصاد لم يسهم في رفع الغبن عن المواطنين الذين يعيشون حالة اختناق داخلي، يموتون ‏حسرة وهم يرون ثروات بلادهم في يد ثلة من الفاسدين الذين استغلوا الوضع ‏السياسي استغلالاً اقتصادياً كاملاً.
إنها بحق أفعال المافيوية الاقتصادية...‏
(خبير اقتصادي جزائري)

المساهمون