الكروان.. مقهى مثقفي وفنّاني غزّة

غزة

علاء الحلو

avata
علاء الحلو
09 مايو 2015
+ الخط -
تكسو رائحة الماضي، وعبق القِدَم جدران "مقهى الكروان" وسط مدينة غزة، التي عَلِقت بها ذكريات عقود خلت، حاملة في طياتها ضحكات شعب آمن بالحياة رغماً عن (إسرائيل)، وسعى لها ما استطاع سبيلاً، وعَشِق الفداء، فَعَلّق صور شهدائه وقادته وفنانيه، في كل زاوية.

"الكروان"، ذلك المقهى الصغير جداً، القديم جداً، لم يكتف بالأصدقاء كبار السن فقط كما هو معهود، بل جذب خلال عقوده التي تعدت الخمسة، عشرات المثقفين والفنانين والشعراء والملحنين والكتاب والممثلين، ليرسموا سوياً، لوحة فن، بخيوط قديمة، أصيلة.

البلاط القديم، والجدران غير الحديثة، والكراسي التي كستها السنوات سواداً، والسقف الخشبي، والصور المهترئة القديمة، والخربشات لم تمنع زوار المقهى القديم من إبداء إعجابهم به، ويجمِع رواد المكان على عِشق الأجواء الكلاسيكية القديمة، التي تريح القلب والعين من ضجة الحداثة "موجعة الرأس والعقل".
 
وتمنح الأجواء الخاصة بالمقاهي القديمة النفس مساحة من الصفاء الذي يُمَكِّن صاحبه من الإبداع في مجاله، ويعتبره عدداً من الشعراء والملحنين والكُتاب أحد أبرز أماكن الإلهام وتصيد الأفكار، خاصة وأنه يوفر فرصة كبيرة للاندماج والانصهار مع مختلف شرائح الشعب، البسيطة والمثقفة.

الأوضاع الاقتصادية السيئة التي يمر بها قطاع غزة المحاصر منذ ثمانية أعوام، حرمت غزة من استمرار عمل عدد من المقاهي التي أغلقت نتيجة لسوء الأحوال، ما قلص عدد المقاهي الشعبية التي يمكن أن يرتادها مثقفو القطاع، والتي أصبح "الكروان" أبرزها.

اقرأ أيضا:تذكار لكل شخص يزور غزّة ..أو يغادرها

فضل عواجة، أحد الأخوة الأربعة أصحاب المقهى، الذين يتناوبون على العمل به من الصباح حتى ساعات المساء، يقول إن عُمر المقهى يزيد على نصف قرن، حيث افتتحه والده، وكان الإقبال عليه شديداً، واقتصر رواده في ذلك الوقت على كبار السن فقط.

ويوضح عواجة لـ "العربي الجديد"، أنّ المقهى بعد دخول السلطة الوطنية الفلسطينية عام 1994 أصبح يضم مختلف شرائح المجتمع، من فنانين، شعراء، موظفين، حرفيين، ممثلين، ملحنين، خريجين، سائقين، وعاطلين عن العمل، يمضون فيه أوقاتاً طويلة.

ويقول: "تتميز قهوة الكروان بمشروب القينر الذي لا يصنعه أي مقهى آخر، ويزيد الإقبال عليه بشكل كبير جداً في فصل الشتاء"، ويضيف: "نهتم بنوعية رواد المكان، ولا نسمح لأي شخص سيئ بدخوله، احتراماً لاسم المقهى، والشخصيات الهامة التي تزوره".




مشروبات المكان لا تتعدى أصنافها أصابع اليد الواحدة، لكن مقاعدها لا تخلو من الرواد الذين اختلفت مقاصدهم، تجد مجموعة من الشباب التفوا حول طاولة للعب أوراق "الشدة"، وطاولة للتفاكر والتقاء الأصدقاء، وأخرى لشخص جلس وحيداً يشرب قهوته، شارد الذهن.

شعراء وفنانون
في الزاوية المقابلة للمدخل، جلس شاب بدا منسجماً في الكتابة على الورق، وعندما طلبنا التعرف إليه، قال: "أنا محمد شرف، أكتب الشعر منذ عدة سنوات، وأعشق الأجواء البسيطة التي يوفرها لي هذا المقهى القديم، فهي تمكنني من الاسترسال في الكتابة دون توقف".

ويقول شرف لـ "العربي الجديد": الأجواء الكلاسيكية تمنح الشعراء والفنانين جواً خاصاً، وأنا اعتدت على هذا الجو في الكتابة، ويشجعني كثيراً رؤيتي لبعض الفنانين الكبار هنا، وآمل أن نجد توسعاً في الأماكن التي تعنى بالأجواء القديمة، وبالمثقفين في غزة.

ويكمل صديقه معتز أبو سلامة الحديث، قائلاً: "سمعت عدداً من الكلمات العادية البسيطة خلال تواجدي في المقهى القديم، وأجبرتني على أن تكون في مطلع أغاني أجهزها كي أعرضها قريباً على أصدقائي المغنين، هذا الجو جميل جداً لكتابة النصوص القريبة من الناس، والملاصقة لهمومهم".

ويتابع حديثه لـ "العربي الجديد": "أصدق الشعراء والكتاب هم من يشاركون الناس تفاصيل يومهم، يجلسون على المقاهي البسيطة، وعلى رمال الشاطئ، ويتحدثون معهم عن حاضرهم ومستقبلهم، كل ذلك من شأنه الخروج بمواد غنية بالمشاعر، وبها زخم فني كبير".

في منصف القهوة، جلس الفنان الفلسطيني أكرم حسن، حوله مجموعة من الأصدقاء والشباب على طاولة اكتظت بالمشروبات الساخنة، اعتادوا اللعب والتحاور والنقاش في كل شيء، دون أن يخلو الجو من الغناء وإلقاء الشعر.

ويقول الفنان أكرم لـ "العربي الجديد": هذا المقهى من أقدم مقاهي قطاع غزة الشعبية، أجتمع فيه بشكل دائم مع أصدقائي الفنانين والشعراء، والناس البسيطة، ونحكي الحكايات ونستمع إلى هموم بعضنا البعض، نُروح عن أنفسنا، ونستعيد نشاطنا بعد جولات من المرح.



ويشير الفنان الفلسطيني، إلى ضرورة التقاء الفنان بمختلف طبقات المجتمع، فـ "من المهم أن نلتقي الناس ونعيش همومهم ونشاركهم تفاصيل حياتهم اليومية، لنعرف ما الذي يحبونه ويكرهونه"، ويبين أنّ الأجواء البسيطة تساهم بانعكاس الروح الجميلة التي تزيل الطبقية، وتعدم الفوارق.

ويضيف: "في المقهى نناقش بعض الأفكار الفنية، ويمكننا تعديل الكلمات أو الألحان"، لافتاً أن الحصار الإسرائيلي والذي خلف أوضاعاً اقتصادية سيئة، شجعهم على الالتقاء بهذا المكان، نظراً لعدم وجود ناد موسيقي يضم الفنانين والموسيقيين.

وتحدث حسن عن مشروعه الخاص "بيت الفن للموسيقى" وهو عبارة عن معهد موسيقي لبيع الآلات الموسيقية، ويحاول من خلاله الترتيب للاحتفالات والمهرجانات وإعطاء الدروس الموسيقية، وتجميع أكبر قدر من الفنانين، تأكيداً على أهمية الفن، ورسالته السامية.

ويتابع الفنان الفلسطيني: نبحث دائما عن البساطة، والالتقاء بكل الناس، خاصة الطبقات الفقيرة والمرهقة لنخلق جواً من الألفة والمحبة والمودة، لأنّ الفنان بدون جمهور لا يساوي شيئاً.

ملتقى أفكار
أما أبو موسى الكرد (56 عاما)، خريج إدارة أعمال، فيختص ببيع المواد الطبية، ويقول إنّ المقاهي في مختلف الدول ليست حكراً على المدخنين فقط، بل تعتبر أحد أهم أماكن التقاء المثقفين والمبدعين، لتدارس الأفكار، والخروج بمشاريع يمكن تطبيقها.

ويقول: "أرتاد المقهى كي أحصل على قسط من الراحة والنقاء، ويمكنني التقاء أصدقائي وعقد الصفقات، أو المكوث فيها انتظاراً لموعد"، لافتاً في الوقت ذاته افتقار قطاع غزة للأماكن التي يمكن أن تحوى الطبقة المثقفة، نتيجة الظروف الصعبة التي يمر بها القطاع.

اقرأ أيضا:فنانو غزة رسموا بريشاتهم "رسالة سلام"

أما الكاتب الساخر أحمد بعلوشة، فيقول لـ "العربي الجديد"، إنّ المقهى القديم يعتبر مساحة كبيرة للالتقاء بالأصدقاء دون موعد محدد، ويضيف: "أسعار المكان مغرية وبسيطة، ويشعر رواد المكان بانعدام الفروق، حين يجلس على نفس الطاولة شخص بسيط، وآخر مثقف".

ويوضح بعلوشة أنّ الأجواء القديمة للمكان تساعد الكُتاب والشعراء على إيجاد الأفكار المناسبة لنصوصهم وموادهم، مشيراً إلى أن هذه الأجواء تكون ملهمة للقلم، فعندما يسمع صوت "برّي" ذلك النادل عالي الصوت، أو يرى بائع الكعك أو بائع السجائر الصغير، أو حتى المتسولين".

ويتابع: "التناقض هو سر جمال ذلك المكان القديم، فبإمكانك سماع شخص يحكي في السياسة، وآخر يتحدث عن هموم بيته، وثالث ثرثار، يمكننا الغوص في الكثير من التفاصيل التي تروي حكايات الناس، وبؤسهم، وتروي أوجاعهم وآمالهم وآلامهم التي تعبئ الجو".

ويوضح الكاتب الساخر، أهمية المقاهي والأماكن القديمة في الحفاظ على المسافة الواحدة بين مختلف طبقات المجتمع وشرائحه، والتي يلتقي فيها المعلم والشاعر والأستاذ والمغني، ويقول: "يعجبني كثيراً انعدام الرسمية في المقاهي القديمة، فطلبات الزبائن يمكن أن يرسلها النادل بالصوت لصانع القهوة داخل المطبخ".

عبق الماضي وأصوات الضحكات التي تتعالى في المكان، فور وهزيمة صديق لصديقه في لعبة "الشدة" (الورق) تمتزج برائحة الدخان وصوت أغنية "راجعين يا هوى" لفيروز، تسرق رواد المكان من أوضاع القطاع الصعبة، وتضعهم في جو عنوانه "البساطة" التي يتغنى فيها شعراء المكان.

اقرأ أيضا:يوم المهرج الفلسطيني.. يدخل الفرح على قلوب أطفال غزة
دلالات
المساهمون