القرآن... و"الخطاب المناهض"

القرآن... و"الخطاب المناهض"

14 فبراير 2016
(برلين: دار دو جريتر، 2015)
+ الخط -

-1- نشر الباحث التونسي الفرنسي "مهدي عزيّز" كتاب "الخطاب المناهض في القرآن" (Le contre- discours coranique) المستمد في جانبه الرئيسي من بحث نال به درجة الدكتوراه من جامعة "آكس أن بروفانس" الفرنسية سنة 2012.

تناول في هذا العمل العلمي الذي تطلب منه خمس سنوات من الجهود البحثية موضوعاً دقيقاً موصولاً بـ"الجدل في القرآن"، متجاوزاً ما هو معهود في هذا الموضوع بما تمثّله من الدراسات القرآنية والتفاسير الحديثة والمعاصرة، التي يقوم عليها باحثون غربيون مسلمون وغير مسلمين.

هذا ما جعل كتاب "الخطاب المناهض في القرآن" المنشور سنة 2015 في دار (دو جريتر) (De Gruyter) الألمانية العريقة ضمن سلسلة "دراسات تاريخ وثقافة الشرق الأوسط" وثيقةً علمية متميزة منهجياً وببليوغرافيا، ولما ركزه واستفاده المؤلف في محاور عمله التسعة، وما أحال عليه وعرّف به من مراجع وأعمال دراسية وتحليلية منشغلة بالنص القرآني.

الكتاب، من هذه الناحية، يقدم جهداً نوعياً بين يدي الباحثين المهتمين بعلوم القرآن وبالمراجعات النقدية للتراث الإسلامي وخصوصاً بالدراسات القرآنية الحديثة وما توفره من مناهج جديدة وما تستدعيه من تطبيقات.

في هذا المستوى فإن كتاب مهدي عزيّز يعرض دراسة قرآنية تُعْوِز المؤسسات الجامعية العربية المختصة في العلوم الشرعية وفي الحضارة الإسلامية، لاقتصار هذه المؤسسات منهجياً ومضمونياً على التعاطي التراثي المجافي لكل تجديد والزاهد في مناهجه، بما يفضي إلى غرس وعي مفوَّت لدى النخب العربية والإسلامية.

-2- من جانب التمشي الفكري يتنزل كتاب "الخطاب المناهض في القرآن" في مجال التجديد الذي يقرأ النص الديني في أسسه العقدية والتصورية ضمن الدائرة الفكرية العالمية. بهذا تضحى الدراسات القرآنية أكثر علمية ومصداقية لالتحامها بما هو أرقى إنسانياً من جهة المنهج والمضمون والآفاق، بما يجعل النص المؤسس نصّاً " مُشِعّاً" أو أنه كما قيل "لا يَخْلُُق عن كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه".

في هذا تذكير بالجهد العلمي الذي أصدرته مؤسسة ترجمان الوحي الثقافية في قم سنة 2002 عن بيبليوغرافيا شاملة للدراسات القرآنية في اللغات الأوروبية لمرتضى كريمي نيا.

لمزيد التعرف على خصوصية كتاب "الخطاب المناهض" يُطرح السؤال عن دلالة هذه العبارة وعن أهميتها؟

بخصوص المعنى، فالمقصود بالخطاب المناهض، هو كل المَقول الوارد ذكرُه في النص القرآني للمخالفين والمناقضين والمنافقين. مَدْعى الاهتمام بالقول ومقوله يتجاوز الجانب النحوي والصرفي، ليتجه إلى خصوص المستويات الدلالية اللسانية والحجاجية للبنية القولية في القرآن.
كمّياً يذكر البحث، أن النص القرآني قد خص 588 آية من جملة الـ 6236 آية منها لمقول المنكرين واعتراضاتهم وأسئلتهم إضافة إلى 350 آية تضمنت أوامر فيها استعمال فعل قال بصيغ مختلفة. توضح هذه الإشارة أهمية عموم القول في النص القرآني، كما تبرز قدر الاهتمام الذي أتاحه النص القرآني لأصوات المخالفين له والمنكرين لدعوته وما حرص عليه في الردّ عليهم.

في هذا المستوى يحدد مهدي عزيّز ثلاثة أصناف من الخطاب المناهض الوارد في القرآن، صنف يتصل بمقول المخالفين السابقين بين الشعوب القديمة التي واجهت دعوة التوحيد( قوم نوح أو شعيب أو لوط) وصنف ثانٍ من المقولات لما سوف يرد مستقبلاً في الآخرة على لسان المنكرين الذين أعرضوا في حياتهم عمّا دُعوا إليه.

-3- يبقى الصنف الثالث من أصناف الخطاب المناهض وهو الذي ركز عليه الباحث فصولاً أربعة من كتابه بعد أن رصد ما نشر من دراسات أكاديمية وأعمال منهجية عن موضوع بحثه وتقييمها. يتعلق هذا الصنف بالمقول المزامن لنزول القرآن والمنكر له في ذات الوقت من مثل: "ويقول الذين كفروا لستَ مرسلا قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب". أهمية هذا الصنف أنه بآياته الـ 270 يمثل ما يقارب نصف كامل آيات الخطاب المناهض الـ 588 وأنه يمثل مجال درس المنطق السجالي الذي انخرط فيه المناهضون والبحث في كيفية استحضاره ضمن البناء القرآني وهل اعتراه تطور في خصائصه مع أنواع الردود التي استعملها النص ليبطل بها دعاوى ذلك الخطاب.

في هذا المستوى يصنف الكاتب آيات مدونة الخطاب المناهض الـ 270 من حيث مضامينها وصياغاتها ومواقعها في مجمل النص القرآني، منتهياً إلى أنها تتجه إلى التعاطي مع خمس قضايا رئيسية بنسب متقاربة في غالبها. أولى القضايا وأكثرها ورودا هي التي يتجه الخطاب المناهض إلى الاعتراض فيها على الذات الإلهية، وما يتصل بتوحيدها وصفاتها مع ما يفيده ذلك من تصور المناهضين لله ولفعله(29%). تليها قضية الرسول التي تتناول صدقه وخصائصه ومواقف المناوئين منه (27%). فمناهضة القرآن نفسه من جهة طبيعة الوحي وصدق المضمون(20%) وإنكار اليوم الآخر وبعث الأجساد(19%). ثم تأتي القضية الأخيرة الخاصة بالمؤمنين ونظرة المناوئين لهم وما فعلوه معهم (5%).

ما يتوقف عنده مهدي عزيّز بعد المسح التفصيلي للأصناف الخمسة للخطاب المناهض هو التزامه المنهجي بتجاوز ما اكتفى بتناوله قلة من الباحثين الغربيين لهذا الموضوع. ذلك ما حصل مع محمد أركون وبيار لارشي (Pierre Larcher) وألفريد لوي دو بريمار (Alfred Louis de Premare)، الذين اكتفوا بإشارات عارضة للمسألة ولم يعمقوا الحفر فيها.

من جهة ثانية، فإن حصر آيات مدونة الخطاب المناهض تكشف بعدين هامين: يتعلق الأول، بالذهنية التصورية للمناهضين كما تم عرضهم في النص القرآني وفي ضوء أسسه ومنطلقاته. يرتبط البعد الثاني، بالخصائص الحجاجية التي اعتمدها النص القرآني لدحض أقوال المخالفين بما أكسب النص بنية أسلوبية وصبغة حجاجية لا يمكن التغافل عنها. بهذا تبرز الأسئلة الإشكالية الثلاثة التي ستقود بقية فصول الكتاب وخلاصاته وهي المتعلقة بالدلالة التاريخية واللسانية والبلاغية التي يبرزها الخطاب المناهض في القرآن.

-4- عند تحديد الدلالة التاريخية للخطاب المناهض، يتوصل الباحث إلى أن النص القرآني الذي لم يحدد أعيان الخصوم المناوئين الذين استعرض أقوالهم، لكنه يتيح، نتيجة تحليل محمول مدونة خطابهم المناهض، التعرّفَ على هوياتهم الدينية وخصوصية تصورهم للألوهية. على ذلك يستخرج مهدي عزيّز ملامح هامة لهؤلاء المناهضين مبينا أنهم ليسوا مجموعة واحدة، بل هم ستة وأن جميعهم ليسوا من المشركين كما هو متداول في الثقافة الإسلامية السائدة، بل إن فيهم من هو موحِّد لكنه مخالف للخطاب القرآني مع ذلك في مواقفه وأفعاله.

بالنظر إلى الدلالة الألسنية فإن معالجة الخطاب المناهض تفيد في التعرف على تنوع الوسائط الاستدلالية التي يستعملها النص القرآني للرد على خصومه ودحض حججهم. ما يتبين من هذا التنوع أن النص المؤسس الذي عدّد طرائق مواجهة أقوال المناهضين، قد راوح في ذلك بين ما يفضي إلى عزلهم والإنقاص من تأثيرهم في زمن الحجاج والمواجهة، وبين تنميطهم والتركيز على جانب أساسي من أقوالهم بشكل يسمح بالإقناع في ظروف وأزمنة متعددة وتالية.

من جهة ثالثة فإن الدلالة البلاغية لما يُنقل من الخطاب المناهض تطرح سؤالاً مبدئياً متعلقاً بما يعرف بالمفارقة الجدلية (Le paradoxe argumentatif). تكمن أهمية هذه المفارقة في تحديد معنى أن يستحضر نصٌ ديني هو كلام الله الحق والمتعالي أقوالاً مناهضة له صادرة عن مخالفين مناوئين لوجهته وقيمه. أليس في ذلك تقوية للخصوم وإعلاء لشأنهم؟

المقتضى البلاغي لهذا التساؤل يفتح المجال على توجهات بحثية متعلقة بالمتداول في السرديات الدينية القديمة وفيما اهتم به الباحث البلجيكي "ميشال كيبارس" (Michel Cuypers) عن البنية القرآنية والبلاغة السامية.

جملة هذه الدلالات التي انتظمت كتاب "مهدي عزيّز" عن "الخطاب المناهض في القرآن" تمكّن من فحصٍ بنيوي للنص المؤسس أحدهما داخلي والثاني خارجي. هناك من الجهة الداخلية بحث في النسق الجامع بين مقول المخالفين السابقين في الشعوب القديمة وبين ما قاله المناهضون المزامنون لنزول القرآن. ضمن هذا الفحص تندرج متابعة دقيقة لتطور وتيرة القول المناهض المتعلق باليوم الآخر في كامل مراحل الآيات المكية ثم في الآيات المدنية. بهذه المقاربة البنيوية يتضح مدى التضامن الداخلي الذي يبرزه هذا الجانب من النص القرآني .

إلى جانب هذا الحفر فإن الخطاب المناهض يكشف النسق الخارجي للنص القرآني في علاقته بالسنن الثقافية والدينية السائدة في التاريخ القديم، ونوع الخصائص التي يتميز بها مقارنة بتلك السنن.

-5- في معرض بيان جانب من مسوغات عمله، ذكر الباحث مهدي عزيّز محدودية الاهتمام بموضوع الجدل في القرآن لدى الباحثين الغربيين المعاصرين، مؤكداً حرصه على التوسع في هذا الموضوع، باستعمال أدوات البحث التي توفرها المعارف الإنسانية الحديثة وما تتيحه من تطبيقات وتوصل إليه من نتائج. ما ينتهي إليه القارئ أن كتاب "الخطاب المناهض في القرآن" قدم نموذجاً دراسياً فيه من الاطلاع والدقة والإضافة ما يتيح القول بأنه تمكّن عبر الموضوعية والتطبيقات المقنعة من إثبات جدارة جرأته العلمية.

ما يحسن التأكيد عليه بخصوص "الرهان" العلمي والمنهجي لهذا الكتاب أنه في استفادته الواضحة من الأعمال الاستشراقية المتعلقة بالقرآن، خصوصاً منها الدراسات الألمانية القديمة والحديثة (نولدكه، فيلد، نيوفريت...) والفرنسية (بلاشير، بارت، أركون ...) لم ينته إلى ما انتهى إليه عدد منهم بمقاربتهم النقدية التاريخية. ليس في رهان مهدي عزيّز بحث عن "أصول " للقرآن وأجزاء مغطاة ومخفية منه، إنما هو نص واحد له بناء يحتاج إلى تمثل علمي ومنطق حجاجي ينبغي التوقف عند خصائصه الأسلوبية ودلالاته المضمونية والتاريخية.

أهم ما يقدمه كتاب "الخطاب المناهض في القرآن" للقارئ المعاصر هو أن آليات قراءة النص الديني الحديثة، تمكننا من إثبات أننا أمام نص مؤسس بمعنى أنه ذو طبقات، وأنه يمتلك أغواراً لا تنفد أو كما قيل قديماً "حمّال أوجه". صميم رهان هذا العمل هو السعي لإثبات أن النص القرآني مفتوح وحيّ، وأن إغناء فهمه يتحقق عبر اغتناء الحاملين له بما لديهم من وعي علمي وفكر تاريخيّ.

مؤدى ذلك أن أهمية كتاب مهدي عزيّز يمكن اختزالها في كلمة تصدق على النص المؤسس، إنه "نص يُفني القراءة ولا تفنيه".

(باحث وكاتب تونسي)

اقرأ أيضا
"الحداثة والقرآن": حول أصل الفتن في دار الإسلام
من الميسر إلى الزكاة: في الأنتروبولوجيا ورسم المنمنمات

المساهمون