القدس محور الصراع الدولي

القدس محور الصراع الدولي

11 نوفمبر 2014

امرأة فلسطينية في مواجهة اقتحامات الصهاينة للمسجد الأقصى (7نوفمبر/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

ربما لم تحظ مدينة في العالم بقدر من الاهتمام والقداسة بالحجم الذي حظيت به مدينة القدس، فقد كانت مطمح الغزاة الصليبيين، والغاية التي عمل لأجلها الاستيطان الصهيوني، منذ قيام دولة الكيان في المنطقة العربية، وما تشهده، اليوم، من محاولات متسارعة لاستكمال خطة الاستحواذ عليها، وتهجير سكانها الأصليين، إنما يندرج ضمن سياق عام عملت عليه الدولة الصهيونية منذ قيامها.

وعلى عادة الصهاينة في استغلال الظرف الدولي المناسب، لتحقيق الأهداف والمخططات، نلاحظ تجدد محاولات اقتحام المسجد الأقصى ومحاولة إحداث واقع جديد في المدينة المقدسة، على نحو ما فعلوه في الحرم الإبراهيمي في الخليل، ولأن للقدس مكانتها العظيمة في نفوس الفلسطينيين والعرب والمسلمين، فإن دولة الكيان الصهيوني تتحسب لأي ردات فعل قد تبديها هذه الأطراف المختلفة تجاه أي محاولة لإطاحة القدس، وهو أمر تجلى في المقاومة العنيفة التي أبداها المقدسيون، على الرغم من ضعف الإمكانات، رداً على المحاولات الصهيونية الجديدة للهيمنة على المقدسات الإسلامية.

ومن الواضح أن ما يجري في المنطقة العربية، هذه الأيام، مثّل حافزاً لزيادة التغول الصهيوني، خصوصاً بعد المواقف المخزية التي أبدتها أنظمة عربية كبرى تجاه الحرب الأخيرة على غزة، واستعدادها للتعاطي مع ما تفعله دولة الكيان الصهيوني، بوصفه صراعاً ضد إرهاب إسلاميّ صاعد، موقف يشترك فيه الصهاينة مع نظام الانقلاب في مصر، الذي يشدد الحصار على غزة، مع ردود الأفعال الواهنة لأنظمة عربية، طالما رفعت شعارات إسلامية القدس، وهي تتواطأ واقعاً مع الإجراءات الصهيونية، وتتساوق معها.

ومن المعروف أن الكيان الصهيوني يشكل جزءاً أساسياً من إستراتيجية حلف الأطلسي في مواجهة التحديات الأمنية والعسكرية في منطقة الشرق الأدنى، وهو موقف تشاركها فيه أنظمة عربية تخشى من هبوب رياح التغيير السياسي عليها، ما حوّل الكيان الصهيوني إلى مركز مؤثر وحاد، مضاد للسلام المجتمعي والإقليمي في المنطقـة. ومركز جذب للصراع بين الدول الـكبرى وحركات المقاومة وجماعات العنف، بمختلف أصنافها، بما يهـدد السلام العالمي.

وإذا نظرنا إلى الكيان الصهيوني، لوجدنا بالفعل تجمعاً استيطانياً قد حقق تفوقاً عسكرياً لا يمكن إنكاره، لكنه تفوُّق لم يحرزه بإمكاناته الذاتية، وإنما بسبب الدعم العسكري الغربي. بل إن التجمُّع الصهيوني ككل لا يعتمد على موارده الطبيعية، أو الإنسانية، وإنما يعتمد على الدعم المستمر من الولايات المتحدة والدول الغربية ويهود الغرب. وهو يحاول التمدد حالياً، مستفيداً من حالة "الجزر" النسبي الذي تشهده الثورات العربية، وما يصاحبها من هوس مرضيّ لدى بعض الأنظمة الإقليمية التي جعلت إستراتيجيتها العامة محاربة ما تسميه "خطر الإسلام السياسي" الصاعد، وهو أمر اقتضى منها تنسيقاً معلناً أو خفياً مع الكيان الصهيوني، في ظل تقاطع مصالح أنظمة الاستبداد العربي، وحرصها على البقاء مع ما يسعى إليه الكيان الصهيوني، ورغبته في التأسيس لمشروع "إسرائيل الكبرى" اقتصادياً والممتدة من المحيط الى الخليج.

ويمكن رصد أهم ملامح التقاطعات، أو التحالف الضمني بين بعض الأنظمة العربية والكيان الصهيوني، في محاولات إضعاف المقاومة الفلسطينية، وإفراغ انتصارها في حربها الأخيرة من محتواه، وحرف منظمات المقاومة الفلسطينية عن غاياتها الأساسية، وهي تحرير الأرض ومحاولة تصويرها بوصفها منظمات إرهابية، تمارس العنف المجاني (لاحظ محاولات ربط حركة المقاومة الإسلامية حماس بتنظيم داعش في ثنايا الخطاب الصهيوني)، مستفيدة في ذلك من وجود طرف فلسطينيّ لم يعد يؤمن بجدوى المقاومة، ووضع كل رهاناته على عملية التفاوض العبثية، المستمرة منذ مؤتمر مدريد، والتي لم تفض في محصلتها النهائية إلا الى مزيد من التنازلات وإحداث انقسامات في الشارع الفلسطيني.

ما يجري في القدس اليوم من محاولات صهيونية لاقتلاعها من جذورها، وما قابل هذا الفعل من مقاومة فلسطينية، بكل الوسائل المتاحة، وسط صمت دولي معتاد، يكشف أن مصير الصراع بين القوى الإحلالية الاستيطانية الصهيونية والمقاومة لازال غير محسوم لمصلحة الصهاينة، على الرغم من اختلال موازين، وقد جاءت تصريحات الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، مثلاً، التي أكد فيها "أن المسجد الأقصى ليس مسجداً للفلسطينيين فحسب، إنما هو قبلة لكل مسلمي العالم"، داعياً إسرائيل إلى وقف الأعمال "البربرية الدنيئة" التي تُرتكب في حق المسجد الأقصى، لتثبت أن القدس لازالت قضية حية فاعلة ومؤثرة في الوجدان العربي والإسلامي، وأنها ستكون محور الصراع المقبل الذي سيتجاوز المستوى الوطني الفلسطيني، ليتخذ ميسماً إقليمياً ودولياً، لا يمكن توقع نهاياته، وتبقى المقاومة الأداة المركزية لبقاء القضية الفلسطينية، وجوهرها المركزي القدس، حيةً في النفوس والأذهان، وقادرة على تغيير معادلات كثيرة، على الرغم من التواطؤ الذي تبديه بعض الأنظمة العربية، والخذلان الذي تكتسي به مواقف السلطة الفلسطينية.

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.