27 ابريل 2016
الفلسطينيون وشتاء آخر
مع صقيع المساء الأخير، من ذات نهاية لذاتِ سنة؛ ماتت الطفلة بائعة الكبريت، في واحدة من أشهر الأقاصيص الخرافية التي ابتدعتها مخيّلة أديب دانماركي وعالمي شهير، عاش في القرن التاسع عشر، هو هانس أنديرسون. هنا، وفي سطور قليلة، يرى واحدنا كيف تشتعل الأمنيات ثم تخبو، فتنطفئ، ليخسر الواهمون ويألمون. في اشتعال الأمنيات، تستكمل خَلجة التمني بهاءها، وكأن الغايات قد تحققت. يستفيق الحالم على رمادٍ وجمود، وعلى هطول الجنون ثلجاً، وعلى انسدادٍ إنساني. يغمر البَرَد الطريق، من دورا إلى قباطيا، أو من غزة إلى جنين، وربما من رأس الناقورة إلى رفح، حسبما يُتاح للمخيلة أن ترى حدود ملعبها. فالطفلة الفقيرة التي ضّن عليها أنديرسون باسمٍ يُخلّد ذكراها، مكتفياً بتعريفها بائعة كبريت؛ فقدت، أول ما فقدت، حذاءها، في طريق مُضنٍ، أبيض، لاسع البرودة، خطير الإزلاج. شعرها الأصفر كان عارياً في الشتاء، ثم حفيت قدماها. لا يماثل بؤس حالها سوى حال من لا سقف له، ولا سلاح ولا سلام ولا طريق، ثم ينشغل في محاكاة نفسه، فتنتج مخيلته المأزومة صور الفائض من الدفء والعنفوان، ويلاعب نفسه النرد. يجادل خصمه الموهوم، ويساجله، وينازعه على ومضات مجدٍ لا ولن تتيحه لأحد، ولن تُعلله، أية حقيقة موضوعية، ولا يعلله تاريخ قريب أو بعيد.
لم تلق الطفلة بائعة الكبريت من يقبض بضاعتها أو يشتري. فقدت حذاءها، وكان الغطاء انحسر عن رأسها أصلاً، فيما نُثار الثلج في هطول. آوت إلى موضعٍ بين منـزلين، تستشعر الدفء من خيوط ضوء، تنبعث من نوافذ بيوت الآخرين. لاذت إلى أعواد ثقابها، فهذه هي كل ما تمتلك. أشعلت واحداً، وتعمدت أن تداري نارَهُ براحتي يديها. أحسّت بدفء لا يوفره فعلاً عود الثقاب. وما أن انطفأ العود الأول، حتى أشعلت التالي، وصولاً إلى الثقاب الأخير. مع كل اشتعالٍ مؤنس، تتبدّى الصور والتمنيات، في عيون الصغيرة، وكأنها تراها تحققت في الواقع. مونار حديدي كبير، مدّت ساقيها بجانبه لتدفّئهما؛ سرعان ما اختفى مع تلاشي الثقاب. يظهر في السياق، ديك الرومي المحمّر الشهي التقليدي، الشائع حضوره في تلك الأمسيات. ثم شجرة ميلاد متلألئة، بشفاعة عودٍ آخر، تختفي بعد اللحظ الخاطف، مع انطفاء الشعلة الصغيرة. وكلما استحالت خلجة التمني أكذوبة أو لقطة خداع؛ كانت بائعة الكبريت تحاول الإضاءة توخياً للدفء من دون أن تيأس. ومع الثقاب الأخير، ظهرت جدّتها الرهيفة الرحيمة. تخيلتها واقفةً وسط الأنوار مستبشرة هانئة. عندئذٍ، يستبد الخوف بالطفلة بائعة الكبريت، إذ ربما تختفي الجدة، مثلما تلاشت كل الأحلام، فتسارع الصغيرة إلى إشعال عود الثقاب تلو الآخر، وهي تصيح: "خذيني معك يا جدّتي"، وليس من جدّةٍ تُلبي، حتى ينفد الكبريت.
في موضع بين منـزلين، شوهدت الطفلة في الصباح ميتة ومتجمدة، ارتسمت على شفتيها بسمة صغيرة، إما ساخرة أو ساذجة. الذين رأوها على هذا النحو، من المارّين في غير اكتراث؛ علقوا قائلين: ماتت الصغيرة في المساء الأخير، ولم تكن تطمح إلى ما هو أكثر من الدفء.
يا لهذا الصقيع اللئيم. ركام سميك، من نُثار الثلج، يجثم على العقول وعلى المصائر والضمائر. بائعة الكبريت، في استسلامها للهطول، اختارت الوهم، بديلاً عن التفكير العقلاني. أغوتها الصور الزائفة، والبهاء المفترض، فانصرفت عن بعض الدفء الحقيقي والتواضع الجميل، تماماً مثلما انتهى حلم سنغافورة في غزة إلى ظلام لا ترضى به الصومال، وانتهى حديث "الدولة" إلى تجويف تام للمجتمع، من السياسة ومن المؤسسات الدستورية، التشريعية والرقابية. اتكأت بائعة الكبريت على الوميض القصير، مثلما يتكئ الواهم بالوجاهة والعنفوان، على مجدٍ سخيفٍ ليس له تعليل.
لم تلق الطفلة بائعة الكبريت من يقبض بضاعتها أو يشتري. فقدت حذاءها، وكان الغطاء انحسر عن رأسها أصلاً، فيما نُثار الثلج في هطول. آوت إلى موضعٍ بين منـزلين، تستشعر الدفء من خيوط ضوء، تنبعث من نوافذ بيوت الآخرين. لاذت إلى أعواد ثقابها، فهذه هي كل ما تمتلك. أشعلت واحداً، وتعمدت أن تداري نارَهُ براحتي يديها. أحسّت بدفء لا يوفره فعلاً عود الثقاب. وما أن انطفأ العود الأول، حتى أشعلت التالي، وصولاً إلى الثقاب الأخير. مع كل اشتعالٍ مؤنس، تتبدّى الصور والتمنيات، في عيون الصغيرة، وكأنها تراها تحققت في الواقع. مونار حديدي كبير، مدّت ساقيها بجانبه لتدفّئهما؛ سرعان ما اختفى مع تلاشي الثقاب. يظهر في السياق، ديك الرومي المحمّر الشهي التقليدي، الشائع حضوره في تلك الأمسيات. ثم شجرة ميلاد متلألئة، بشفاعة عودٍ آخر، تختفي بعد اللحظ الخاطف، مع انطفاء الشعلة الصغيرة. وكلما استحالت خلجة التمني أكذوبة أو لقطة خداع؛ كانت بائعة الكبريت تحاول الإضاءة توخياً للدفء من دون أن تيأس. ومع الثقاب الأخير، ظهرت جدّتها الرهيفة الرحيمة. تخيلتها واقفةً وسط الأنوار مستبشرة هانئة. عندئذٍ، يستبد الخوف بالطفلة بائعة الكبريت، إذ ربما تختفي الجدة، مثلما تلاشت كل الأحلام، فتسارع الصغيرة إلى إشعال عود الثقاب تلو الآخر، وهي تصيح: "خذيني معك يا جدّتي"، وليس من جدّةٍ تُلبي، حتى ينفد الكبريت.
في موضع بين منـزلين، شوهدت الطفلة في الصباح ميتة ومتجمدة، ارتسمت على شفتيها بسمة صغيرة، إما ساخرة أو ساذجة. الذين رأوها على هذا النحو، من المارّين في غير اكتراث؛ علقوا قائلين: ماتت الصغيرة في المساء الأخير، ولم تكن تطمح إلى ما هو أكثر من الدفء.
يا لهذا الصقيع اللئيم. ركام سميك، من نُثار الثلج، يجثم على العقول وعلى المصائر والضمائر. بائعة الكبريت، في استسلامها للهطول، اختارت الوهم، بديلاً عن التفكير العقلاني. أغوتها الصور الزائفة، والبهاء المفترض، فانصرفت عن بعض الدفء الحقيقي والتواضع الجميل، تماماً مثلما انتهى حلم سنغافورة في غزة إلى ظلام لا ترضى به الصومال، وانتهى حديث "الدولة" إلى تجويف تام للمجتمع، من السياسة ومن المؤسسات الدستورية، التشريعية والرقابية. اتكأت بائعة الكبريت على الوميض القصير، مثلما يتكئ الواهم بالوجاهة والعنفوان، على مجدٍ سخيفٍ ليس له تعليل.