العلاقة الروسية ــ الأوكرانية: تاريخ مشترك ومصالح جيو-ستراتيجية

العلاقة الروسية ــ الأوكرانية: تاريخ مشترك ومصالح جيو-ستراتيجية

03 مارس 2014
لا يمكن تجاهل حقيقة الحضور الروسي القوي في أوكرانيا
+ الخط -

يعتبر الروسُ مدينة كييف الأوكرانية "أمَّ المدن الروسية" ومركزاً للحضارة الأرثوذكسية الشرقية. أوكرانيا تعدُّ كذلك الدولة الثانية بعد روسيا من حيث الأهميّة الاستراتيجيّة للاتحاد السوفييتي السابق، وهناك جذور حضارية وتاريخية واقتصادية وثقافية وعرقية ودينية عميقة تربط روسيا وأوكرانيا ذات الـ46 مليون نسمة. وعلى الرغم من تمكّن أوكرانيا من تحديد هويتها الوطنية خلال القرن التاسع عشر، إلا أن الطابع الديموغرافي بشكلٍ أساسيّ بقي خليطاً من الشعبين الروسي والأوكراني. وتمكّنت أوكرانيا ضمن الاتحاد السوفييتي من تبوّء المرتبة الثانية من حيث الإنتاج والصناعة بعد روسيا، لذا فإنّ الحضور الروسي ممتدّ ومتجذّر في العمق الأوكراني. ويبدو الطلاق ما بين البلدين مستحيلاً، وهناك ضرورة قسوى لحلّ العديد من المشاكل العالقة ليس فقط على صعيد الحوار السياسي المشترك ما بين البلدين ولكن على الصعيد الجيوسياسي الإقليمي أيضاً.

ولا يمكن تجاهل الأثر الجيوسياسي للحقبة الاشتراكية في هذا الملف، حيث قام الزعيم السوفييتي نيكيتا خروتشوف، ذو الأصول الأوكرانية بضمّ شبه جزيرة القرم لأوكرانيا خلال العام 1954، وأُسستْ قاعدةٌ عسكرية بحرية على ميناء سيفاستوبول المطلّ على البحر الأسود.

وعلى الرغم من الجدل القانوني بشأن ضمّ القرم لأوكرانيا إلا أنّ كييف وافقت بأن يتمتع هذا الإقليم بحكم ذاتي في أثناء تسعينيات القرن الماضي، أخذاً بالاعتبار أن الإمبراطورة إكاترينا العظمى قد أعلنت القرم حزءاً لا يتجزّأ من روسيا وللأبد خلال العام 1783. لكنّ العقيدة الشيوعية ألغت في أوج سلطتها الفروق الشعبية والقومية ما بين دول الاتحاد ما سمح بالتغاضي عن وضعية القرم، باعتبار كامل أوكرانيا جزءاً من الاتحاد السوفييتي الأم.

قاعدة سيفاستوبول العسكرية

تتمتع شبه جزيرة القرم بحكم ذاتي، خلافاً لمدينة سيفاستوبول الخاضعة للإدارة الروسية مباشرة. وتمكّن الكرملين خلال العام 2010، وبعد محادثات مضنية، من تمديد اتفاقية سيطرة موسكو على هذه القاعدة حتى العام 2042، ما اعتبر انتصاراً كبيراً لروسيا. هذا الأمر حثّ المعارضة الأوكرانية على انتقاد هذه المعاهدة ورفضها وإعتبارها مجحفة وتمسّ بسيادة أوكرانيا. وعمل الغرب وحلف الأطلسي على تحريض المعارضة ضدّ السلطة الحاكمة في كييف. واعتبر العديد من الخبراء أنّ هذه الاتفاقية من العوامل الأساسيّة التي أدّت لاشتعال الثورة ضدّ الرئيس فكتور يانوكوفيتش، ما أسفر في نهاية المطاف عن سقوطه وهروبه إلى روسيا.

عدا عن حلف الأطلسي، شجّعت تركيا ودعمت خلال العقد الأخير مالياً وسياسياً توجّهات حصول الأقليّة التتريّة على الحكم الذاتي. وإذا كان الصراع الحالي في أوكرانيا ما بين الأوكرانيين والروس، فإن الصراع خلال الحقبات الماضية كان ما بين هاتين الفئتين من جهة والتتر المسلمين السنّة من جهة أخرى، الأقليّة التي طردت وهجّرت في حقبة حكم الزعيم السوفييتي ستالين. وقضى قرابة 100 ألف مسلم تتري في الفترة 1948 – 1954 لمشاركتهم في الحرب العالمية الثانية ضدّ جيوش ستالين.

الصراع ما بين البلدين الجارين استمرّ كذلك بشأن السيادة على المياه الإقليمية. تجدر الإشارة إلى أنّ اللقاء الذي جمع يانوكوفتيش – بفلاديمير بوتين عام 2012، مكّن الأخير من توقيع اتفاقية تسمح لروسيا بالسيطرة على الخطّ البحري لمرور قواتها عبر مياه بحر آزوف المتفرّع عن البحر الأسود.

حلف شمالي الأطلسي قرأ الانتصار الجديد لروسيا مدركاً الأهميّة الاستراتيجيّة لهذا الإقليم. ولن تسمح روسيا بغضّ النظر عن ردود الفعل الأوروبية وحلف الأطلسي بخفض حجم نفوذها في كافة المناطق المطلة على البحر الأسود، لأنّها ضرورية لتنفيذ مشاريعها المتعلقة بقطاع الطاقة ونقل الغاز الطبيعي إلى أوروبا، عدا عن أهميّتها العسكريّة.

أوكرانيا ومشاريع الطاقة الروسية

تعتمدُ أوكرانيا بشكل رئيسيّ على الغاز الطبيعي الروسي في اقتصادها وتشغيل العجلة الصناعيّة، كما تقوم بنقل كميات كبيرة من الغاز الطبيعي الروسي إلى أوروبا. لكنّ أوكرانيا التي تعاني من العديد من المشاكل الاقتصادية والعجز المالي، لم تتمكن من دفع استحقاقات شركة "غازبروم" المالية، وتدين حالياً بقرابة مليار ونصف مليار دولار للعام 2013 للشركة الروسية.

واضطرت روسيا لخفض كميات الغاز المصدرة عبر أوكرانيا لأوروبا خلال السنوات القليلة الماضية لتحصيل ديونها، ما أدّى لاندلاع أزمة طاقة في معظم دول الاتحاد الأوروبي.
من جهتها، قدّمت أوكرانيا لروسيا أسلحة تقليدية ونووية من مخلّفات الحقبة السوفييتية، لتسديد جزء من هذه الديون. حاولت روسيا كذلك شراء أصول شركات الطاقة الأوكرانية لتعويض الديون المتراكمة، كما هو الحال مع العديد من الدول الاشتراكية السابقة ومن ضمنها بلغاريا. الأمر الذي يعني حرمان هذه الدول من سيادتها الوطنية على أهمّ القطاعات الحيويّة – قطاع الطاقة، إلا أنّ هذه المحاولات باءت بالفشل حتّى اللحظة.

حاولت رئيسة الوزراء السابقة، يوليا تيموشنكو، خلال العام 2009، إيجاد حلّ إيجابيّ لأزمة الطاقة. يومها اتّفقت مع المنظومة الأوروبية لتمويل مشروع تنمية وتطوير شبكة الطاقة ونقل الغاز الأوكراني بكلفة 2.5 مليار يورو، وإنجاز المشروع حتى العام 2016 بتمويل من بنك الاستثمار الأوروبي وبنك التنمية والتطوير الأوروبي والبنك الدولي.

لكنّ روسيا الراغبة بإقصاء أيّ تدخل أوروبي خارجي قد يؤثر على احتكارها المطلق لنقل الغاز لأقصى أنحاء أوروبا، لعبت دوراً رئيسياً بقلب الطاولة على تيموشنكو، التي أودعت السجن لمدّة سبع سنوات بقرار من قبل المحكمة.
وفشل الاتحاد الأوروبي الذي تدخّل بكلّ ثقله السياسي الممكن للشفاعة لها وإخراجها من السجن وتلقّي العلاج في ألمانيا.

استمرّ الضغط الروسي على الحكومة الأوكرانية، وخضع الرئيس يانوكوفيتش في نهاية المطاف لهذه الضغوط. رضوخ تجسد برفض المصادقة على اتفاقية التعاون التجاري والسياسي مع الاتحاد الأوروبي. وفضّل يانوكوفيتش التوجه إلى موسكو وطلب المساعدة من بوتين، الذي أغرقه بالهدايا ووعده بتقديم الدعم المالي وخفض أسعار الغاز الطبيعيّ المصدّر لأوكرانيا. هذا الأمر أدّى إلى ارتفاع معدّلات السخط والتمرد من قبل المعارضة الأوكرانية ذات التوجهات الأوروبية، واتهام يانوكوفوتيش بالتفريط بالمصالح الوطنية لأوكرانيا.
هذه العوامل مجتمعة أدّت لاندلاع الثورة في كييف، سقط خلالها عشرات القتلى وأجبر الرئيس يانوكوفيتش للهرب إلى موسكو.
بهذا لم تننته مشاكل أوكرانيا، بل يمكن القول بأنّها قد بدأت على أرض الواقع. الخزينة شبه فارغة والديون المتراكمة هائلة للغاية، وهناك حاجّة ملّحة للحصول على 4 مليار يورو على الأقل كي لا تعلن البلاد إفلاسها.
وكانت روسيا على أتمّ الاستعداد لتقديم هذه الأموال بدلًا من المطالبة بديونها، قبل اندلاع الثورة والتمرّد ضدّ التواجد والنفوذ الروسي. وتدرك روسيا جيّداً بأنّ الاتحاد الأوروآسيوي الذي تترأسه غير قابل للبقاء دون أوكرانيا. ولن تلتزم روسيا وحلفائها بوثيقة حقوق الإنسان واعتماد آليات الديموقراطية كما تطالب بذلك أوروبا والولايات المتحدة الأميركية. كما تدرك روسيا بأنّ الأطلسي لن يحرّك جيوشه لفرض هذه المبادئ والدفاع عن أوكرانيا والوقوف في وجه الآلة العسكرية الروسية. وكان الغرب والأطلسي قد صعّد إلى وقت قريب مظاهر الحرب الباردة. وهدد الغرب بفرض العقوبات، لكنّ نفوذ روسيا في أوكرانيا وسيطرتها على القرم شأنٌ لا يقبل النقاش.

ولا توجد هناك ضرورة لاندلاع حرب جديدة لتحديد تبعية شبه جزيرة القرم، لأنّها خاضعة عملياً للنفوذ العسكري الروسي، بمباركة غالبية الشعب في هذا الإقليم، الذي يزيد تعداد سكانه على مليوني مواطن.

الدور الأوروبي ما بعد الثورة

طموح أوكرانيا للانضمام للاتحاد الأوروبي مشروع ولا يمكن حرمان هذه الدولة من حقّها بتحديد المصير، لكن هناك عوامل جيوسياسية تفرض جدول أعمال يختلف عن الأهواء الشعبية.
وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ نسبة كبيرة من الشعب الأوكراني يرفض الانفصال عن الفلك الروسي. ويرى بأنّ مصالح أوكرانيا الاستراتيجية مرتبطة بروسيا، في الوقت الذي يعتبر فيه الاتحاد الأوروبي أوكرانيا دولة مركزية في التحالف الشرقي. لهذا السبب، سارع بتقديم الدعم المالي، واقترح رئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الأوروبي، إلمار بروك، تقديم مساعدات مالية بقيمة 20 مليار دولار حال بدء أوكرانيا بعمليات الإصلاح المطلوبة. وأضاف كذلك بأنّ الاتحاد الأوروبي لن يسمح بإفلاس هذه الدولة.

الردّ الروسي على الانقلاب الأخير في أوكرانيا لم يتأخر كثيراً وحصل الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين على تفويض من قبل مجلس الشيوخ في البرلمان الروسي لاستخدام القوات العسكرية الروسية. وبات بإمكان "الرئيس الحديديّ" تحريك قواته المتواجدة في سيفاستوبول لفرض السيطرة المطلقة على شبه جزيرة القرم. ولن تقوى أية قوّة أجنبية بما في ذلك الأطلسي على الوقوف في وجه هذه القوات المتمركزة في هذا الإقليم منذ عقود طويلة من الزمن، وكأنّ مقولة الإمبراطورة إكاترينا التي اعتبرت القرم جزءاً أبدياً من روسيا قد تحققت.

الملاكم الشهير فيتالي كليتشكو، زعيم الحزب الديموقراطي المعارض، أدرك بعد الانقلاب الدموي في كييف بأنّ أوكرانيا المفلسة من الناحية العملية ستجد نفسها وحيدة في وجه الدبّ الروسي. لهذا السبب طالب بالتهدئة، مشيراً إلى أن هناك ضرورة ملحّة لمزيد من الاستشارات والمحادثات مع روسيا لحلّ الأزمة بطرق سلمية ووقف طبول الحرب. وتوجّه لمواطني القرم وشرق البلاد مؤكّداً عدم وجود أيّة توجّهات للحدّ من حقوقهم الدستورية.

السيناريوهات كافّة مفتوحة في الملف الأوكراني، لكن هناك حقيقة لا يمكن تجاهلها تتمثّل بحضور روسي قويّ في شمال أوكرانيا بل ويبدو منطقياً. وتحظى روسيا بدعم ملحوظ من قرابة 10 ملايين مواطن. كما يوجد حضور روسي في شرق البلاد أيضاً، اذ تتمركز القاعدة الصناعيّة الأساسيّة لأوكرانيا التي تضمن جزءاً كبيراً من إجماليّ الناتج القومي لهذه الدولة. لذا يتوجب على أوكرانيا أن تتعامل مع هذا الواقع بحذر، لتفادي الوقوع في أزمة اقتصادية غير مسبوقة في تاريخها المعاصر.

 

المساهمون