العراقيون إخوة.. تعايش على الرغم من الطائفية والحروب

العراقيون إخوة.. تعايش على الرغم من الطائفية والحروب

24 يناير 2017
قد يكونون من طوائف مختلفة (عصام السوداني/ فرانس برس)
+ الخط -
يوزع الحاج أبو غانم منذ ثلاثة عشر عاماً المساعدات على المحتاجين في منطقته باستمرار من دون أن يسأل عن هوية الشخص المستفيد ودينه. تاجر الأدوات المنزلية بالجملة في العاصمة العراقية بغداد، لم تمنعه الطائفية من أداء واجبه الإنساني متحدياً كلّ ما يحدث من قتل وخراب في البلاد.

تقول الكاتبة العراقية زينب بابان (38 عاماً): "في صغرنا، لم نكن نعرف جارنا من أيّ دين أو مذهب. كنّا نتبادل الزيارات جميعنا. أذكر أنّ الناس في شارعنا كانوا ينتظرون صحن الزردة (حساء حلو المذاق) من أم عمر التي توزعه على الجميع من دون استثناء". تشير إلى أنّ النموذج الحقيقي للشعب العراقي هم أولئك الذين يرفضون الطائفية: "عشت ذلك في السويد مع عراقيين من مذهب آخر، ولم يكن هناك أي صراع أو بغضاء بيننا. لم نفكر إلاّ بنجاة العراق مما هو فيه وبسلامة كلّ طوائفه من القتل والدمار. كثيراً ما تتبادل عائلتي وجيراننا العراقيون الزيارات، بل يشتركون في بعض الأعمال الهادفة إلى تقديم المساعدات للعراقيين في الداخل".

تعتقد بابان في حديثها إلى "العربي الجديد" أنّ سبب الطائفية هو الاحتلال الأميركي ومشروعه الاستعماري. فالأميركيون هم من زرع الفتنة بين العراقيين: "كان من المفترض بكثير من العراقيين العمل بشعار الرئيس نيلسون مانديلا عندما خرج من السجن وعاد ليوحد شعبه، وهو شعار عفا الله عما سلف. فهذا حقاً ما يشعر به كلّ عراقي ليست له مصلحة إلاّ وحدة واستقرار العراق".

صداقات

من جهته، يعتبر دريد حسن (30 عاماً) أنّ الطائفية أخذت كثيراً من الشعب العراقي خلال الأعوام السابقة، وما زال يعاني منها حتى اليوم. يعيد ما يحدث إلى أيادٍ غير عراقية: "القوى الخارجية اتخذت من العراق مسرحاً لحروبها وتصفية حساباتها، أما نحن كشعب فبعيدون جداً عن هذا المرض الخبيث. العلاقات بيننا مبنية على التراحم والأخوّة والصداقة والمصاهرة".
يتابع لـ"العربي الجديد": "أقرب أصدقائي من طائفة غير طائفتي، تربطني به علاقة صداقة حقيقية، ولم أفكر يوماً بطائفته أو انتمائه، فنحن لا نتعامل مع الشخص بحسب تصنيفه أو مذهبه أو دينه... هذا شأن يخصه وحده في النهاية. نتعامل على أساس الأخلاق والتربية، وفي كثير من الأحيان خصوصاً في أوقات الضحك والمزاح نبدأ بتعريف أنفسنا على أسس طائفية، ثم سرعان ما نعود إخوة. لا أتذكر أنّنا تأخرنا على بعضنا بعضاً في طلب. وعلى الرغم من كلّ الأحداث التي عصفت بمنطقتنا كنا عوناً لبعضنا بعضاً، حتى أنّه قبل شهر تبرع لشقيقتي بالدم".

يعلّل المهندس الزراعي، الدكتور سعيدي محمد علي (60 عاماً) سبب التراحم بين العراقيين بأنّ الشعب العراقي مكوّن من فسيفساء مختلفة وهذا ما يجعله مهما ابتعد يعود إلى أصله كشعب مترابط ومتماسك في ما بين أفراده. يقول لـ"العربي الجديد": "مرت على العراقيين حروب كثيرة، من حرب الخليج الأولى إلى حرب الخليج الثانية ثم الغزو الأميركي وما بعده. لكنّ أعنف هذه الحروب الاقتتال بين الطوائف وبين القوميات حول مناطق متنازع عليها". مع ذلك، يقول إنّ تلك الحروب "لم تؤثر على أواصر التلاحم والتعاون في الظروف الصعبة. والحقيقة أنّ هذه المكونات المذهبية والقومية تتعايش مع بعضها بعضاً في سلام ووئام ومحبة وتعاون. وعند الشدائد والحروب تزداد هذه الأواصر بين المكونات قوة، حتى أنّ الجيش العراقي إبان حرب الخليج الأولى (ضد إيران) كان يحارب في خندق واحد بكلّ مكوناته".

نزوح ومساعدات

يؤكد محمد علي، أنّ النزوح في العامين الأخيرين كشف كثيراً من هذا الجانب الإيجابي: "عائلات محافظات الجنوب عملت على إيواء النازحين الذين فروا من مناطقهم نتيجة القتال بين الجيش والحشد الشعبي من جهة، وتنظيم داعش من جهة أخرى. ففي الحلة وكربلاء والنجف وذي قار، على الرغم من أنّها ذات غالبية شيعية، نجد أنّ كثيراً من العائلات رحب بالنازحين السنّة الإخوة، وفد جاؤوا من الأنبار وديالى. كذلك، استقبلت العاصمة بغداد كثيراً من النازحين، ووفرت عائلاتها البغدادية الأصلية ما يحتاجه النازحون من سكن وغذاء كلّ بحسب استطاعتها".



بدوره، لا يجد علي غرابة في تراحم العراقيين في ما بينهم لسبب معروف منذ القدم: "التاريخ يشهد على المصاهرة بين مختلف المذاهب والقوميات، وأحياناً بين أفراد من أديان مختلفة كالمسيحيين والمسلمين. هذه المصاهرة ولّدت تقارباً بين المذاهب والقوميات. فالعربي مثلاً يتزوج من الكردية، والتركماني يتزوج من العربية. مثل هذا الأمر جعل للعراقيين أنساباً مشتركة ومعها حياة مشتركة تختلف عن باقي الشعوب".

يتابع: "هناك عامل آخر حفز العراقيين على التقارب مع بعضهم أكثر وهو ما فعله داعش من الاستيلاء على ممتلكات الإخوة المسيحيين وسبي النساء الأيزيديات وبيعهن خارج العراق. كلّ ذلك جعل العراقيين أكثر تماسكاً مع بعضهم بعضاً من أجل القضاء على العدو داعش. وما زال العراقيون يتذكرون أنّ المسيحيين تعايشوا مع المسلمين في أنحاء البلاد بكلّ محبة واحترام، وجرت المحافظة على حقوق المسيحيين وأموالهم. كذلك، قدم كثير من المحسنين في جنوب العراق تبرعات إلى إخوتهم النازحين في المناطق السنية في ديالى والأنبار وصلاح الدين ولاحقاً الموصل. كلّ ذلك يؤكد التلاحم بين المذاهب والقوميات والأديان العراقية مع بعضها بعضاً ضد أي عدو وتحت أي ظرف".



من جهتها، تقول انتصار الربيعي (46 عاماً) من سكان بلدة المقدادية التابعة لمحافظة ديالى (57 كم، شمال شرق بغداد) وهي ربّة منزل، إنّها أسكنت عائلة نازحة في منزلها الثاني من دون أي مقابل، وساعدت العائلة، منذ اليوم الأول، لوصولها قبل عام ونصف عام. تؤكد لـ"العربي الجديد" أنّها فعلت ذلك "ابتغاء مرضاة الله عز وجل، ولأنّ العائلة وقعت في محنة. وهذا ما يتوجب علينا أن نبادر إليه من دور إنساني من دون أن يكون هناك صلة قرابة أو مصاهرة بيننا. المبادرة إلى أيّ فعل إنساني مطلوبة أكثر في الوقت الراهن نظراً لما تعانيه العائلات النازحة والمهجّرة من ظروف قاسية".

تلفت الربيعي إلى أنّ ما فعلته ليس بالأمر الجديد ولا المستغرب: "هناك كثير من العائلات التي فعلت مثلي بل أكثر. في الوقت نفسه، لا يمكن أن أنفي أنّ بعض ضعاف النفوس استغلوا الظروف بطلب المال بدل إيجار المساكن وبأسعار مرتفعة على الرغم مما تعانيه العائلات النازحة".

تسونامي كاذب

أما الحاجة نوال العطافي (68 عاماً)، وهي موظفة صحة متقاعدة تسكن في العاصمة العراقية بغداد، فتقول إنّها ساعدت كثيراً من العائلات التي فقدت أبناءها قتلاً على الهوية، خصوصاً بين عامي 2005 و2007: "بعلاقاتي الخاصة مع موظفي دائرة الطب العدلي، تمكّنا من الوصول إلى الجثث التي كانت تحتفظ بعض العصابات بها وتمنع الموظفين من تسليمها لذويها بدوافع طائفية مقيته". تشير لـ"العربي الجديد" إلى أنّها ما زالت تحتفظ بعلاقاتها مع صديقاتها من طوائف أخرى حتى أنهن يذهبن معاً إلى مكة المكرمة لأداء مناسك العمرة كلّ عام. تتابع: "ما تبينه وسائل الإعلام من تباغض وطائفية بين العراقيين أمر غير صحيح، إنّما هي محاولة لتشويه صورة العراقيين أمام العالم، حاولت وما زالت تحاول الماكينات الإعلامية المغرضة تثبيت هذه الناحية السلبية التي ربما تأثر بها بعض الأفراد. لقد جعلوا من الطائفية ظاهرة وتسونامي لا يمكن إيقافه".

من جانبه، يعتبر الناشط محمد العلي (27 عاماً) أنّ ما يحدث وما يراه العالم من طائفية وقتال يظنه بعضهم حقيقة واقعة بين أفراد الشعب العراقي: "كلّ ذلك بالإمكان أن ينتهي بين ليلة وضحاها إذا حُلّت الأحزاب الطائفية، وإذا كانت هناك إرادة حقيقية للشعب العراقي في التخلص من تلك العناصر التي أثرت سلباً على حياة المواطنين واستنزفت راحتهم بشكل كبير".
يذكر العلي لـ"العربي الجديد" أنّه الشهر الماضي حضر زفافين لعائلات مختلفة في الطائفة قررت أن تتصاهر: "حتى أنّ أهل العروس في أحدهما لم يبالغوا في طلب المهر بسبب ظروف العريس، واكتفوا بخاتم من ذهب مع حفل بسيط للأهل والأصدقاء. وهو عنصر آخر يثبت أنّ العراقيين ما زلوا متوادين ومتراحمين في ما بينهم".