الصين..استيراد المعرفة الغربية عن الشرق

الصين..استيراد المعرفة الغربية عن الشرق

08 مايو 2016
(بكين: دار شيشي للنشر، 2016)
+ الخط -
في السنوات الأخيرة، أبدت الصين اهتماماً متزايداً بالشرق الأوسط، جراء التغيرات السياسية في المنطقة إضافة إلى الحروب وتفشي التطرف في العالم كله، وأيضا بما تتسم به المنطقة من الأهمية الاستراتيجية لمبادرة "الحزام والطريق" ـ الخطة التنموية والديبلوماسية الكبيرة للصين. وأكبر دليل على هذا الاهتمام، إصرار الرئيس الصيني على القيام بزياراته الرسمية للسعودية وإيران ومصر، في بداية العام، رغم تفجر المواجهة بين السعودية وإيران قبل موعد جولته بقليل.

في هذا السياق، شهدت دراسات الشرق الأوسط تطورا سريعا غير مسبوق في الصين، إذ قامت الجامعات والمعاهد الصينية بإعادة تنظيم الاختصاصات القائمة، أو إنشاء البرامج التعليمية والبحثية الجديدة، لسد الحاجة الماسة من السياسيين والعامة الراغبين بمعرفة تاريخ وواقع الشرق الأوسط. وأقدم الخبراء، سواء أكانوا باحثين معترفا بهم، أم طلبة ما زالوا يتلقون التدريب البحثي، على الكتابة وتحليل هذه المنطقة، وعلى إسداء نصائح سياسية في التقارير المقدمة إلى الحكومة، فضلا عن عقد الندوات والاجتماعات العلمية أو الاستشارية على المستويات المحلية والدولية.

غير أن هذا التطور لا يتماشى مع التقدم المتدرّج في العلم والنظرية، بل تخيّم عليه الانتهازية التي أدت إلى "التبعية العلمية". والتي تتمثل في اعتماد الكثير من الباحثين الصينيين على نتائج دراسات الشرق الأوسط في الغرب، دون إعطاء وزن مستحق للقيام المستقلّ بالعمل الميداني والتحليل الدقيق للأرشيف. وبالتالي فإن نقص الاستقلالية هذا، يحصر إلى حدّ ما إمكانيات الباحثين الصينيين لاستكشاف الشرق الأوسط، طبقا للمسائل التي قد شكّلها بالنسبة للموقف الصيني والمصلحة الصينية. وكنتيجة لذلك، تسود "التبعية العلمية" دراسات الشرق الأوسط في الصين، بحيث تؤثر على عمل الباحثين الذين استغرقوا في هذا الميدان وقتا طويلا.
مثال ذلك كتاب "دراسات سياسة الشرق الأوسط" للأستاذ جونغمينغ ليو، رئيس معهد دراسات الشرق الأوسط في جامعة الدراسات الأجنبية بشانغهاي. حيث جمع كل الأوراق البحثية التي أصدرها الكاتب خلال السنوات العشرين الماضية. يتصف الكتاب بـ"التبعية" رغم روعة عرضه ودقة تحليله، فمن مواضيع الكتاب: دور الإسلام في مجتمع الشرق الأوسط، القومية والإسلامية والصهيونية، الاضطرابات السياسية الأخيرة في المنطقة وغيرها. إلا أنّ أغلبية المصادر والمراجع والأوراق التي اعتمدها المؤلف كانت باللغة الإنجليزية.

يعكس الكتاب حالة النقد الذاتية التي أبداها باحثو دراسات الشرق الأوسط في الصين، حيث أشاروا فيها إلى "التخلف المزدوج" لهذه الدراسات عن نظيرتها في الغرب، ولا نستثني هنا الدراسات الصينية عن الدول الأخرى مثل أميركا وأوروبا واليابان وجنوب آسيا. فلماذا هذا التخلف إذن، ولماذا هذه التبعية؟

السبب يرجع إلى هرمية دراسات الشرق الأوسط على مستوى العالم والاهتمام الصيني بها. حيث نشأت هذه الدراسات في أوروبا ثم أميركا نتيجة لما جرى بين الغرب والشرق الأوسط من عمليات التأثير والقهر من جهة، والمقاومة من جهة أخرى. هذه العمليات، على رأسها الاستعمارية والإمبراطورية، تجسدت في العلاقات والتعاملات بين الطرفين، وظلت تؤثّر على مصيرها أو تتحكم بها، وبالتالي شكّلت رؤى ومواقف بعضها عن الآخر هوية كل من الشرق الأوسط والغرب. فلم تنحصر هذه العلاقات والتعاملات في المجالين السياسي والاقتصادي فقط، بل اشتملت على المجال الفكري أيضا.

إن دراسات الشرق الأوسط، منذ تحوّلها التدريجي بين الحربين العالميتين، من تقاليد علم الاستشراق إلى الصورة الحالية، أصبحت الساحة الرئيسية للتعاملات الفكرية بين الغرب والشرق الأوسط. تزامن هذا التحول مع نشأة علوم السياسة والاقتصاد والاجتماع في أميركا، التي سعت إلى استخلاص المفاهيم والقيم من الخبرات والتجارب الغربية، واختبار صلاحيتها العمومية من خلال تعميمها وتطبيقها على العالم كله. هذا الاختبار، نتج عنه تشابك في المصالح والاستراتيجيات الأميركية في الشرق الأوسط، مما أقحم العلم والفكر في سياسات القوة والتحكم والهيمنة.

أما في الشرق الأوسط، فازداد عدد الباحثين الذين انضموا إلى الجامعات والمراكز البحثية في الغرب في برامج دراسات الشرق الأوسط، بحيث أضافوا رؤيتهم ومواقفهم إلى الأكاديمية الغربية. أبرز مثال على ذلك، هو الجدل حول كتاب "الاستشراق" لإدوارد سعيد، الذي تحدى أصول ومحاور الدراسات عن الشرق كله.

يتجلى مما سبق أن هذا الميدان البحثي، تشكل من خلال التعاملات المتواصلة بين الغرب والشرق الأوسط، وعلى أيدي المشاركين من كلا الطرفين. بحيث تكونت المفاهيم والقيم والنظم الأساسية لهذا الميدان، وانتشرت وتعممت في العالم، الأمر الذي جعل من هذه الدراسات في الغرب تشكل"المرجع الأساسي"، بينما نظيرتها في البلدان الأخرى بقيت "هامشية"، ومن هنا نشأت الهرمية في دراسات الشرق الأوسط على النطاق العالمي.

وفي إطار هيمنة هذه الهرمية، لا بد لدراسات الشرق الأوسط في الصين التخلص من "التبعية العلمية"، واتباع النقاش الحاصل حول الشرق الأوسط بشكل أكثر عمقا، فلا يمكن التخلص من هذه "التبعية" إلا عند الكشف للجوانب والمفاهيم المشتركة التي تنشأ من خلال التعامل بينهما.

(أستاذ مساعد في قسم اللغة العربية بجامعة بكين)

المساهمون