الصحافة السودانية ونشاط الرقيب

26 ابريل 2015

صحافيون سودانيون يتظاهرون احتجاجا (19أكتوبر/2014/Getty)

+ الخط -

يبدو جلياً أنّ ما ستواجهه الصحافة السودانية، في فترة ما بعد الانتخابات الرئاسية والنيابية، مزيداً من كبت الحريات. وقد كان طلباً طموحاً ذاك الذي ما انفك ينادي بحرية الصحافة، في بلد تنعدم فيه الديمقراطية وحرية التعبير من أي نوع. وما أزمة الصحافة في السودان إلّا انعكاس لأزمات تأخذ بتلابيب المواطنين الذين يتصفحونها كل صباح، أملاً في خبرٍ سعيد، يزيح عن كاهلهم أعباء المعيشة، والضيق بالنظام الحاكم الكاتم على الأنفاس.

في ظلّ ولاية رئاسية سادسة للبشير، وبعدما شهدته الصحافة في السودان من هجمات شرسة، لا تزال تنفذها السلطات الأمنية، تارة بالمصادرة وأخرى بالإيقاف، لا يُتوقع أن تغيّر السلطات في صحيفة اتهامها أغلب الصحف بتجاوز "الخطوط الحمراء" المرسومة، والتي ضمنتها في "نشر أخبار تؤثر على الأمن القومي".

وتستخدم السلطات عبارة الأمن القومي الفضفاضة، لتبرّر رقابتها وكبتها الحريات، ببثّ الرعب في قلوب الصحافيين ومؤسساتهم. وأصبح التوجس من العقوبات التي تساوي بين من يتناول الأمن ومن يستعرض حقيقة الإقبال على الانتخابات وأخبار اختفاء الناشطين، كلها عقوبات قد تصل إلى الإعدام، وفقاً لمواد في القانون الجنائي، وأشهرها: المادة (21) الاشتراك تنفيذاً لاتفاق جنائي، المادة (50) تقويض النظام الدستوري، المادة (63) الدعوة لمعارضة السلطة العامة بالعنف أو القوة الجنائية، المادة (66) نشر الأخبار الكاذبة، بالإضافة إلى المادة (24) من قانون الصحافة والمطبوعات مسؤولية رئيس التحرير. وقد تم من قبل وفقاً لهذه المواد مجتمعة فتح بلاغ في مواجهة مديحة عبد الله، رئيسة تحرير صحيفة الميدان، الناطقة باسم الحزب الشيوعي السوداني المعارض في يناير/ كانون الثاني من هذا العام 2015. وفي ذاك الشهر وحده، تمت مصادرة الصحيفة نفسها حوالى 10 مرات. وتجري المصادرة للصحف، والتي بلغ عددها مرة، وفي يوم واحد، حوالى 14 صحيفة، من دون توضيح أسباب أو أمر قضائي، لتصل حصيلة الصحف المصادرة من جهاز الأمن، خلال العام الماضي وحده، أكثر من 50 طبعة من مختلف الصحف.

يبدو واضحاً أنّ تعبير"تراجع مناخ الحريات" التي ظل يطلقها بعضهم كلما وصلوا إلى درجة التآلف مع كبت الحريات، وتجاوزوه إلى قهرٍ أشد، هو تعبير غير دقيق. فبحكم سياسة نفسيةٍ، ينتهجها جهاز الأمن، يتم، من خلالها، حمل المؤسسات الصحافية على التكيّف مع حالات الكبت والمصادرة والاعتقالات، حتى لو جاءت بما هو أشدّ صرامة، يكون الوضع السابق في حكم المألوف.

فليس ما تشهده الحريات الصحافية في السودان من تدهور مريع وليد موسم الانتخابات، فهذه حال الحريات في السودان، منذ مجيء نظام الإنقاذ. فقد كان أول ما فعله هذا النظام تجريد السلطة الرابعة من تاجها، بعدة طرق، اعتمدت القوة الصلبة بالمصادرة واعتقالات الصحافيين وإيقاف رؤساء التحرير في استدعاءات مهينة، أقلّها أن يقبع الصحافي في مكاتب التحقيق من دون سؤال نوعاً من التعذيب المعنوي والضغط النفسي. كما عملت على استخدام القوة الناعمة، وذلك بتدجين الصحافيين والناشرين ومؤسساتهم، واستعانت برجال المال والأعمال المنتمين للحزب الحاكم بفتح دور صحف لا يملكون ذرة من مؤهلاتها.

الأكثر إثارة والداعي إلى النقاش في قضية الصحافة السودانية، الآن، هو هذا التناقض بين أجواء الانتخابات التي كان مفترضاً أن تكون أكثر انفتاحاً على الحق في التعبير عن الرأي. ففي ظل عملية انتخابية، كان الأولى أن تتسم بنوع من الديمقراطية، قام جهاز الأمن بتعميم توجيه للناشرين، يقضي بعدم نشر أي مانشيت، أو صور سالبة، عن الانتخابات، أو ضعف الإقبال عليها، والتركيز على الإيجابي، وإبرازه طوال أيام الاقتراع. ولما لم يكن هناك سوى الحقيقة الناصعة التي أفادت بضعف الإقبال، عكست الصحف حالة العصيان المدني والاحتجاج الصامت على العملية الانتخابية وعدم نزاهتها، والركود في مراكز الاقتراع، فكانت النتيجة المتوقعة أن تمت، الأسبوع الماضي وحده، مصادرة جهاز الأمن صحفاً، لمنعها من التغطية الحرة للانتخابات، مع استدعاء الصحافيين الذين قاموا بالتغطيات.

في عام 2009، كان الاتحاد الدولي للصحافيين من التفاؤل بمكان، حيث سجّل زيارة للسودان، وهو يحمل في جعبته عدداً من الأجندات، لتنفيذ مبادرة الصحافة الأخلاقية، وهي مبادرة لدعم حرية الصحافة والديمقراطية، تسعى إلى بناء الثقة والحوار بين المجتمع المدني والحكومة ووسائل الإعلام، وكذلك طرح الجودة الأخلاقية في ما يتعلق بالصحافة. تفاءلنا، عامئذٍ، بأن ينتهي النقاش مع أعضاء الاتحاد الدولي للصحافيين، ليبدأ نقاش آخر على المستوى الوطني، يتناول دور الصحافة وما عليها أن تقوم به في تغطيتها انتخابات عام 2010.

وبالطبع، كان ذلك مجرد حلم، لم يتحقق في هاتين العمليتين الانتخابيتين، فما زالت الصحافة في السودان رسالة مقدسة يرى الصحافيون ضرورة أن يعبروا بها الأرض الحرام. وما زال الناشرون يجاهدون، بينما تشتعل الرقابة تحت أقدامهم. ومع حمى هدير المطابع يبحث الصحافيون عن صفحة لم تُبتر، ليكتبوا عن جرعة حريةٍ لم يتذوقوا طعمها بعد.

8615DCBC-E386-43F8-B75E-8FF0C27360A3
منى عبد الفتاح

كاتبة صحفية من السودان. حاصلة على الماجستير في العلوم السياسية. نالت دورات في الصحافة والإعلام من مراكز عربية وعالمية متخصصة. عملت في عدة صحف عربية. حائزة على جائزة الاتحاد الدولي للصحفيين عام 2010، وجائزة العنقاء للمرأة المتميزة عام 2014.