الشوف وعاليه في جبل لبنان: انتخابات بلدية بحجم المتصرفية

الشوف وعاليه في جبل لبنان: انتخابات بلدية بحجم المتصرفية

12 مايو 2016
تكريس أعراف خاصة في كل بلدية مختلطة(رمزي حيدر/فرانس برس)
+ الخط -
تشهد حجارة القلاع والقصور التاريخية في محافظة جبل لبنان على الأحداث الأمنية والسياسية التي شهدتها هذه المنطقة. صاغ وجهاء القصور تاريخ إنشاء متصرفية جبل لبنان في العهد العثماني، وصولاً إلى تأسيس الجمهورية اللبنانية، وانتقال المقر الصيفي لرئيس الجمهورية إلى قصر موسى في الجبل. واكب قضاءا الشوف وعاليه في المحافظة كافة الأحداث العامة في البلاد حتى قبل استقلال لبنان عام 1943. ثم شهدت بلدات القضاءين العديد من الأحداث الأمنية والسياسية التي رسمت مسار الاستقلال عن فرنسا.

ارتبط تاريخ القضاءين أولاً بإنشاء المتصرفية بعد المعارك الأهلية الطاحنة التي خاضها المسيحيون والدروز في أحداث "فتنة عام 1860"، ثم بإعلان استقلال البلاد بعد اعتقال السلطات الفرنسية لرئيس الجمهورية بشارة الخوري، ورئيس الحكومة رياض الصلح، والوزراء كميل شمعون، وعادل عسيران، وسليم تقلا، ونائب طرابلس عبد الحميد كرامي، واجتماع باقي أقطاب السلطة في بلدة بشامون (الشوف) لإنهاء الانتداب الفرنسي (1920 ـ 1943)، وتأكيد إعلان الاستقلال، وتبني علم البلاد الحالي. لم يغب القضاءان عن الحرب الأهلية (1975 -1990) وكافة المعارك التي خيضت فيها، خصوصاً المعارك الكبيرة التي تمدّدت من محيط القصر الجمهوري في بعبدا إلى بلدات عاليه بين الجيش اللبناني بقيادة الجنرال ميشال عون آنذاك والجيش السوري. حوّلت تلك المعارك البلدات إلى محاور ارتبط اسمها بجغرافية الحرب قبل أن تعود كما كانت: مصيفاً للسياح ومقصداً للبنانيين.

من عمر سكّة الحديد
يعود رئيس اتحاد بلديات "الجرد الأعلى ـ بحمدون"، رئيس بلدية صوفر، الدكتور يوسف شيا، بالحديث عن دور المنطقة إلى تاريخ مد سكة الحديد بين لبنان وسورية. وهي مناطق يعود تاريخ بعض بلدياتها إلى عام 1897 مثل عاليه، وصوفر عام 1913. "يومها شكّلت المنطقة ركيزة العمل السياسي والثقافي والاجتماعي. وبعد عقود عدة تراجع دورنا وحاصرت الطائفية تركيبة مجالسنا البلدية. ضاقت المنافسة البلدية من المنطقة إلى الجب فالعشيرة، حتى داخل العائلة الواحدة"، يقول شيا لـ"العربي الجديد".

ويضيف أن تحقيق التنمية المحلية في البلديات تخلله عقبات عدة بعضها سياسي والآخر إداري/قانوني. "فالمركزية الشديدة تربط إنماء البلدات بمراكز الأقضية والمحافظات وصولاً إلى العاصمة نفسها، وهي عملية بطيئة. كما يؤدي ربط التنمية بإرادة الأحزاب السياسية إلى عرقلتها وعدم توازنها أحياناً"، وفقاً لرئيس البلدية. يدعو شيا إلى إقرار قانون نسبي للانتخابات البلدية "فالأمر أسهل على الصعيد البلدي منه على الصعيد النيابي". كما يدعو إلى إبعاد الأحزاب السياسية عن البلديات "من دون انتقاص دورها أو وجودها في المجتمع".

العلاقة المسيحية الدرزية
لا يمكن الحديث عن الأحزاب السياسية في جبل لبنان من دون التطرق إلى الحزب "التقدمي الاشتراكي" برئاسة النائب وليد جنبلاط، وعن الزيارة التي قام بها البطريرك الماروني السابق، نصر الله بطرس صفير إلى بلدات الشوف يرافقه جنبلاط عام 2001. شكّلت تلك الزيارة مفتاح عودة المسيحيين الذين هُجّروا خلال الحرب الأهلية إلى بلداتهم في الجبل. تشهد البلدات المسيحية في الجبل ورش إعادة إعمار مستمرة لإعادة الوجود المسيحي كاملاً إلى تلك المنطقة التي غادروها مهجّرين خلال الحرب الأهلية. أبرز الوُرش القائمة حالياً تقع في بلدة بْريح التي تشهد إعادة بناء كنسيتَين فيها إلى جانب منازل العائلات المسيحية العائدة.


جاءت زيارة البطريرك الحالي، بشارة الراعي، عام 2012، لتؤكد على وحدة أبناء الجبل المسيحيين والدروز الذين يتوزعون ضمن انتماءات سياسية عديدة من الأحزاب المسيحية؛ "الوطنيين الأحرار"، و"الكتائب اللبنانية"، و"القوات اللبنانية"، و"التيار الوطني الحرّ"، والأحزاب الدرزية، "الديمقراطي اللبناني" (طلال إرسلان)، و"التقدمي الاشتراكي" (جنبلاط)، و"التوحيد العربي" (وئام وهاب). يُعاد اليوم طرح ملف العلاقة المسيحية ـ الدرزية على أبواب الاستحقاق البلدي الذي يخوضه القضاءان في الخامس عشر من مايو/أيار الحالي، مع إضافة عامل جديد يتمثل في المصالحة الداخلية بين أكبر حزبَين مسيحيَّين في لبنان، "التيار الوطني الحر" برئاسة النائب ميشال عون، وحزب "القوات اللبنانية" برئاسة سمير جعجع.

وتشير حسابات النائب جنبلاط إلى معركة شرسة سيضطر إلى خوضها في القضاءين بوجه التحالف المسيحي المستجدّ. وينبع قلق جنبلاط من وجود نسبة اختلاط طائفي كبيرة في 72 بلدية شوفية، وهو عدد البلديات التي صوّت فيها أبناء الشوف في الانتخابات البلدية الماضية عام 2010، بحسب إحصاءات "الجمعية اللبنانية من أجل ديمقراطية الانتخابات" (لادي). ويتوقع مراقبون أن تشهد تحالفات بلدية بين القوات والعونيين للمرة الأولى منذ انتهاء الحرب الأهلية عام 1990. ويرى كل من عون وجعجع أنّ الاستحقاق البلدي مناسبة فعلية لامتحان التفاهم بينهما وتكريسه سياسياً وانتخابياً وشعبياً.

يبقى حيّز التأثير السياسي على الانتخابات البلدية في الشوف وعاليه محطّ خلاف بين فعاليات المنطقة، إذ يرى عضو كتلة حزب "الكتائب" عن عاليه، النائب فادي الهبر، أن "المعيار الحزبي ليس الأساس في الانتخابات البلدية. شهدت الانتخابات السابقة معارك بلدية ديمقراطية داخل الحزب الواحد سواء عند الاشتراكيين، أو الكتائب، أو غيرها من الأحزاب بسبب الطبيعة العائلية للاستحقاق". يجزم الهبر في حديث لـ"العربي الجديد" أن "مفاعيل القرار السياسي بالمصالحة في الجبل والذي رسّخته زيارة البطركَين صفير والراعي إلى المنطقة ستستمر في كل الاستحقاقات العامة". مع العلم أن المسيحيين والدروز كرّسوا أعرافاً خاصة في كل بلدية مختلطة تحدّد التوزيع العددي لمقاعد المجلس البلدي بين الطائفتَين، مثل بلدية عاليه التي يتوزع فيها أعضاء المجلس بالعرف (12 درزيا و6 مسيحيين). وهي أعراف تتفاوت في ما بينها من خلال التوزع المذهبي والعائلي في بلديات قضاء عاليه الـ55 التي خاضت انتخابات عام 2010، بحسب "لادي".

الأعراف أقوى من الدولة
يتحدث رئيس بلدية عاليه وجدي مراد عن "توارث أعراف بين المناطق بسبب ضعف الدولة الذي لا يطاول العمل المحلي فقط بل يتعداه إلى شكل السلطة المحلية وصلاحيتها في مختلف المناطق اللبنانية". تقدُّم دور البلديات في المناطق كحكم بين مقدّمي الخدمات التي تعجز الدولة عن توفيرها لمواطنيها (الكهرباء، والإنترنت، والنقل العام) وبين المواطنين لتأمين الحد الأدنى من الخدمة والسعر المقبول للمواطن"، وفقاً لمراد. وبسبب ضعف الدولة يشير مراد لـ"العربي الجديد" إلى تقديم العائلات نماذج متعددة للتوافق مثل "المداورة بين العائلات لتولي رئاسة البلديات في المناطق، أو تشكيل مجالس بلدية بحسب الانتماء العائلي". وهي معايير تؤثر سلباً على معيار الكفاءة في اختيار رؤساء وأعضاء المجالس البلدية. "والمصيبة الكبرى إذا وصل رئيس بلدية كفيّ إلى منصبه وأزاحته المداورة لصالح رئيس آخر أقل كفاءة، وهو ما يحصل كثيراً"، بحسب مراد.

 


الزفت بوابة الانتخابات والنفايات فخّها

على سبيل العرف أيضاً، تشهد معظم الطرقات العامة في الشوف وعاليه ورشاً واسعة لتحسين الطرقات التي تربط البلدات ببعضها البعض على أبواب الانتخابات، وهو عرف ينظر إليه البعض بوصفه رشوة غير مباشرة قبل موعد الاقتراع. لكن الرابط الأكبر بين القضاءين هو أزمة النفايات المتوقّع تجددّها بعد انتهاء مهلة الشهرَين اللذين حدّدتهما الحكومة لفتح مطمر الناعمة (الشوف) واستقبال نفايات محافظتَي بيروت وجبل لبنان قبل إقفاله بشكل نهائي للمرة الثالثة على التوالي. تعاني المنطقتَان من غياب أي رؤية واضحة لمعالجة النفايات التي ستنتج بعد هذا التاريخ.

في الوقت الحالي، يعاني أهالي البلديات المحيطة بمطمر الناعمة المركزي (جنوبي بيروت) من مشاكل صحية عديدة نتيجة طمر النفايات التي تخمّرت طوال ثمانية أشهر في بيروت وجبل لبنان. يشكو سكان كل من عين درافيل، وعبيه، وعرمون من انتشار الروائح الكريهة بشكل دائم في أجواء بلداتهم. ويردد السكان بأسى معاناة حوالي 700 طفل يقيمون في "بيت اليتيم الدرزي" في عبيه نتيجة روائح النفايات المنبعثة من المطمر.

ضاعفت أزمة النفايات من انعدام الثقة بين الدولة والمواطن، بحسب رئيس اتحاد بلديات إقليم الخروب الشمالي، الرائد المتقاعد محمد بهيج منصور. لا يبعد إقليم الخروب في الشوف عن المناطق المتضررة نتيجة أزمة النفايات. ويتشارك مع بلدات عاليه الشوف الباقية نفس الأزمات الإنمائية. يدعو منصور المرشحين إلى "إيلاء أزمة النفايات الأهمية اللازمة كون الملف يحتلّ رأس القائمة لدى الناخب المحلي". ويؤكد منصور لـ"العربي الجديد" أن "المواطن لم يفقد الثقة بالأحزاب المحلية بعد، فهي رفعت الصوت معه في أزمة النفايات وسلّطت الضوء على إلقاء الحكومة لملف النفايات بوجه البلديات من دون أن تكون الأخيرة مستعدة لتولي هذه المسؤولية نتيجة عوامل مختلفة".

يُفصّل رئيس بلدية سوق الغرب، الدكتور كميل نصار هذه العوامل "التي تتشابه في مختلف الأقضية اللبنانية". يقول نصار لـ"العربي الجديد" إن "البلديات اللبنانية مؤسسات تعمل بلا مدخول بسبب مصادرة مداخيلها في الصندوق البلدي المستقل. هي أموال تحتاج إليها البلديات بشدة لمشاريع الري وتأمين مياه الشفة وصيانة البنى التحتية، إلى جانب قيامها بدور الدولة في تأمين الكهرباء عبر المولدات وإدارة النفايات ضمن نطاقها. وهي وظائف تتطلب مصاريف كبيرة لا تغطيها جباية البلدية لمستحقاتها من السكان". وإلى جانب الضرر المالي المباشر، يتحدث نصار عن "تأثير قانون الانتخابات السلبي على آلية الترشح. فبسبب النظام الأكثري، يعتمد المرشحون على العدد وعلى الدعم العائلي ويُغيّبون البرنامج الانتخابي".

المساهمون