الشعر والسينما.. قصائد في دور البطولة

الشعر والسينما.. قصائد في دور البطولة

11 فبراير 2017
(مشهد من فيلم: مجتمع الشعراء الميتين)
+ الخط -

يتربّع الشعر على رأس قائمة فنون الكتابة، ربّما لأنه فن الكتابة، أو كما يقول جان كوكتو، هو الكتابة دون أن تكتب، فالشاعر يُعيد خلق المعاني ويضيف إليها معنى جديدًا، وفي هذا التقرير نستعرض بعض بطولات الشعر في السينما من مختلف المدارس السينمائية ومن مختلف الأزمنة، لنرى كيف كان حضور الشعر بهيًّا في سابع الفنون.


أورفيوس 1950 - Orpheus
فيلم للشاعر والمخرج السينمائي الفرنسي جان كوكتو، يحكي قصّة أورفيوس الملحمية في إطار سينمائي، فالبطل عازف الموسيقى الذي يعشقه الجميع في الأسطورة، هنا هو الشاعر أورفيوس، الذي يجني قوت يومه من قصائده، يفاجأ بشاعر آخر قد بدأ في سحب البساط من تحت قدميه، يريد التدخّل ولكن كبرياءه تمنعه، لم يعلم بأن هنالك مخلوقًا آخر من عالم آخر يحبّه، وهي إلهة الموت، الجميلة النحيفة ذات الوجه الحاد، سوف تأخذ زمام المبادرة وتقتل الشاعر عدو أورفيوس، كره هو ذلك بالرغم من فائدته، فقط لأنه شعر بالتهديد في وجود تلك القاتلة، التي انقلبت رأسًا على عقب، بسبب فضوله وحبّه للمنظر قبل الجوهر، فكانت أقل مصائبه في ذلك الجحيم الدنيوي، حرمانه من النظر لزوجته إن كان يريدها حية ترزق.


نوستالجيا 1983 - Nostalghia
هو أوّل الأفلام التي يصنعها تاركوفسكي خارج موطنه روسيا، وقبيل الحديث عن الفيلم، يقول تاركوفسكي في مذكراته التي كتبها مباشرة بعد توزيع الجوائز في مهرجان (كان 1983)، "مازلت لا أتحكم بنفسي جيدًا حتى أستطيع إيجاد الكلمات لوصف ما حدث، كل شيء كان مخيفًا ويمكن معرفة التفاصيل من الصحافة التي كتبت عن المهرجان كثيرًا، وأنا أحتفظ بهذه المقالات".

ندرك مما اقتبسناه قسوة الجرح الذي تسببت فيه تلك الهجرة الإجبارية لتاركوفسكي لوطنه، وهنا في الفيلم، يحدثنا عن ذلك الألم على لسان بطله جورشاكوف الشاعر، الذي يبحث عن شيء يفتقده، ربما يجده في موسيقى الروسي ماكسميليان بريوزوفسكي، في إيطاليا، البلد التي هي مهد الفنون، والتي صوّرها المخرج بنظرة شمولية تعبر عن بطله اللامنتمي، فالأماكن الأثرية خربة، الكثير من البرك والمستنقعات، الكثير من الضباب، والأماكن الآيلة للسقوط، كل شيء يسقط، حتى جورشاكوف، يسقط هو الآخر، لا يود مصادقة سوى المنبوذين، لأنه يشعر بالألفة معهم، ليتقاسم معهم جرحا ما، يهوّن رحلته الإجبارية.


البوسطجي 1994 - The Postman
الشعر هو المقاومة، مقاومة للحفاظ على الإيقاع المتفجّر للقلب، رجل هوسته امرأة، فلم ير مدخلًا لقلبها سوى من خلال الشعر.

الشاعر بابلو نيرودا، يجئ إلى إيطاليا، هاربًا من وطنه الذي نفاه بعيدًا للحدّ من شروره، يستقرّ هناك، تحاول الحكومة الإيطالية إبعاده للحفاظ على العلاقات الدبلوماسية مع تشيلي وطن الشاعر، فيهب الناس من كل ربوع إيطاليا، لكي يجبروا الحكومة على منح الشاعر حريّة الإقامة.

ذلك الرجل المهووس بالحب، لم يجد الحل سوى من خلال كلمات سيّده نيرودا الذي يشغل عنده كساعي بريد، يطلب منه مساعدة، فيسأله نيرودا عن اسم حبيبته، فيخبره بأنها بياتريشيا، فيهدي إليه بعضا من شعر دانتي أليجيري الذي يحاكي بياتريشيا أخرى، في شكل ومضمون عذب، يسرد الفيلم حكاية ذلك العاشق بشاعره وحبيبته، وأي وداع يليق ببهاء تلك الشخصيات سوى وداع الشاعر ببطولة.


مجتمع الشعراء الميّتين 1989 - Dead Poets Society
تلك اللهفة التي يحققها الشاعر لقرائه، كل ذلك الإلهام الذي يروّجه الشعر، كل هذا الجمال الفريد، ذلك الأفق الذي تغزوه الكلمات لتنفذ إلى الصدور وتبدل الحال إلى حال.

فصل دراسي في مدرسة اعتيادية نموذجية، خالية من الإثارة، كان ينقصها فقط، رجل يهوى الشعر، مدرس للمادة، في أوّل حصة دراسية له، يأمر طلابه بتمزيق الكثير من المنهج الدراسي المفترض أنهم سيمتحنون فيه، أثار ذلك فضول الجميع، هاجموه، ولكنه دافع بخفّة وجمال أغوى طلابه، وهداهم لنفسهم قبل مصيرهم.

يقول المدرس لطلابه: "الطب والمحاماة والهندسة، هي حرف نبيلة ومهمة لكي نحافظ على الحياة، ولكن الشعر والجمال والحب هي الأشياء التي نعيش من أجلها".


موسم وحيد القرن 2012 - Rhino Season
في الكثير من الأحيان يصبح الشعر هو طوق النجاة للمأزومين والغاضبين، لكنه في بعض الأحيان يصبح دليل إدانة ويتم الزج بالشعراء بسبب قصيدة جاءت بها كلمة حق في وجه سلطان جائر، كما حدث بداية من صوفيا اليونانية، إلى الشاعر صديق كمانكر المقتبسة عنه بعض أحداث الفيلم.

ساحل، بطل الفيلم، يخرج بعد ثلاثين سنة من الحبس ليبحث عن زوجته، والتي أخبرتها السلطات بأن زوجها مات، فعاشت حياتها بمصاحبة تلك المأساة المزيفة، أرملة وبأطفال يتامى، فقط من أجل كذبة اخترعتها السلطات الإيرانية إبان الثورة الإسلامية، لكي تكوي جرحا وتزيده نارا وحسرة.

بقدر كل ذلك الألم المشحون به الفيلم، كانت أحداثه مقبضة، سوداوية، كل شيء مؤلم، كما تقرأ مونيكا بيلوشي من قصائد كمانكر( قبرك واضح، نعشك يدور حول نفسه، وينثر اللعنات)


الأبدية.. ويوم 1998 – Etirnity and A Day
الشعر هو فن الكتابة، والكتابة هي فن الحذف، عبارة شائعة ويؤمن بها الكثيرون، ماعدا أليكساندر بطل فيلم (الأبدية .. ويوم) للمخرج اليوناني أنجيلوبولوس، والذي كانت مشكلته لا أن يحذف، بل كيف يكمل قصيدته.

في الفيلم الذي نال السعفة الذهبية من مهرجان كان عام 1998، صوّر لنا مخرجه تلك الأزمة، من خلال تجربته السابقة في كتابة الشعر، بأن مَزج الحاضر والماضي ببعضهما، الذكريات التي هي معين التجربة الشِعرية ومحرّكها، والحاضر الذي يصوغها بحسب لغته، لكي يتجاوز بالشاعر بطل الفيلم الحدود الفاصلة بين تلك الأزمنة، ليستعيد منها ما فقده، وليقوّي رباطه مع ما سيفقده لكي يحتفظ به.


عواء 2010 - Howl
بداية من الكوميديا الإلهية لدانتي، ورسالة ابن المعري، إلى جدارية محمود درويش، ومنها إلى قصيدة عواء للشاعر الأميركي آلن جينيسبيرغ، المنشورة في ديوانه (عواء .. وقصائد أخرى)، يحاول الشعراء كتابة تصوّرهم عن العالم كما يرونه.

في الفيلم الذي أخرجه روب إبيستين وجيفري فريدمان، حاولوا لنا وصف ذلك العالم الموحش، فجينيسبيرغ تتم محاكمته لديوان شعر لم يعجب البعض، لأنه ذات مرة قال عمن حوله (مَنْ أكلوا نارا في فنادق الحثالة أو شربوا السولار في زقاق الجنّة، في الموت، أو مَطْهروا صدورهم ليلةً بعد ليلة) فحاولوا أن يسكتوه للأبد معتقدين بأنهم يستطيعون ذلك.

يسير الفيلم في ثلاثة أزمنة مختلفة، فـ زمن المحاكمة، والحوار الصحافي إبّان تلك المحاكمة، وزمن القصائد التي يقرؤها الشاعر، وعندها تتحوّل الصور إلى رسوم متحرّكة، قاتمة، تجاري إيقاع القصيدة المكتئب يحمل نظرة سوداوية عن العالم الآن ومستقبلًا.


في مهبِّ الطريق 2012 – On The Road
فيلم للمخرج العالمي والتر سالاس، صاحب الكثير من الكلاسيكيات كفيلم يوميات سائق الدراجة، وهو مقتبس عن رواية لجاك كيرواك الشاعر والأديب، وهو أحد أفراد حركة أدبية شارك فيها آلن جينيسبيرغ وويليام بوروز اسمها The Beat Generation، تميزت بإنتاج أدبي ذي طابع صدامي، وقد نشأت إبّان الحرب العالمية الثانية، وكانت ذروة رواجها في الخمسينات وصولًا لغلاف مجلة التايم الشهير.

يقول كيرواك "لا أمتلك سوى ارتباكي وفزعي لأقدمه للناس في هذا العالم بالذات"، وهنا في الفيلم سريع الإيقاع، شأنه شأن تلك الحياة الخالية من النهايات السعيدة، كحياة بطل الفيلم سال بارادايس، غير القادر على حسم كل تلك المشاكل الطارئة والمزمنة، المحتجز في ماضيه، يتّخذ من الترحال ملاذا آمنا للهرب من الذكريات، لكي يمارس إنسانيته، دون التفكير فيما فقده أو ما سيفقده، حتى لو لم يكن قرار الهروب ذاك سوى إذعان لرغبة صديقه لص السيارات.

المساهمون