السودان: دعهم يموتوا... أسئلة السلطة وعنصرية تصريحات "أبي قردة"

السودان: دعهم يموتوا... أسئلة السلطة وعنصرية تصريحات "أبي قردة"

21 نوفمبر 2017
+ الخط -
في بلدٍ أصبح الطموح الأقصى فيه هو البقاء على قيد الحياة، حيث لا أمل في مستقبل ولا تطلعات سياسية أو ثقافية، كل مواطن فيه أرنب لا يحسن الركض عليه أن يوفّق بين نجاته من السلطة الجائعة المفترسة، وما يسد رمقه كل يوم بما يعينه على النجاة من المفترس، تأتي تصريحات وزير الصحة السوداني، بحر إدريس أبوقردة وفقاً لصحيفة الراكوبة الإلكترونية: "بنصرف قروش على مرضى السرطان وفي النهاية بيموتوا"، والتي لا تقرأ في إطار "ذلّات اللسان"، بل هي تعبير دقيق عن سياسات الدولة الصحية المتبناة وتعبير أدق عن رؤيتها تجاه المواطن وكيفية التعامل معه بصورة عامّة.

نظرة سريعة على التدهور المريع في القطاع الصحّي بالسودان المتردي بالأساس يجعلنا ندرك أن تصريح السيد الوزير غير مفاجئ، حيث الاتجاه الرامي لخصخصة الخدمات الصحية بتفكيك مؤسسات الدولة الصحية، وتحرير سعر الدولار الدوائي ليقارب سعر الدولار في السوق السوداء 28 جنيهاً حتى لحظة كتابة هذه التدوينة، مما ترتب عليه زيادة في أسعار الدواء فاقت أضعاف الأضعاف، إضافة إلى قلّة الكوادر العاملة في الحقل الصحّي لظروف كثيرة أهمّها الهجرة بحثاً عن ظروف عمل أفضل حيث يبلغ معدل العاملين في مجال الصحة في السودان 1.2 لكل ألف من السكان و0.4 و0.6 لكل ألف من السكان في دارفور والمناطق الحدودية مقارنة بالمعدل المعتمد من منظمة الصحة العالمية وهو 2.3 لكل ألف من السكان.

صاحب هذا التدهور ازدهار كبير في القطاع الصحي الخاص بتكاليفه الباهظة، حيث لا بديل أمام المواطنين غيرها، يجعلنا نتساءل ماذا تبقّى للفئة الثانية من الذين لا يملكون، الذين يعانون الاحتيال من مراكز الطب البديل والأعشاب التي وللمفارقة يدير شركاتها حكوميون نافذون "شركة النيل للأعشاب كمثال"، ويعانون الإهمال في ما تبقّى من المستشفيات الحكومية.

يمكن لأفكار الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو عن ثنائية السلطة الانضباطية/ السلطة الحيوية وعلاقتهما بالعنصرية أن تساعدنا في فهم تصريح السيد الوزير الأخير.


في سلسلة محاضراته الشهيرة في معهد كوليج دو فرانس: (يجب الدفاع عن المجتمع) يميز الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو بين طريقتين لممارسة السلطة على أجساد السكان في مجتمعات أوروبا الرأسمالية الأولى يسميها السلطة الانضباطية ويعني بها كل "التقنيات" التي تمارسها السلطة مباشرة على الأجساد بهدف تطويعها وترويضها مثل التعذيب، القمع والعقاب الجسدي وحتى الإماتة (محو الجسد من الوجود)، وطريقة أخرى لممارسة السلطة على الأجساد يسميها السلطة الحيوية Biopower: يعني بها الطريقة التي تتيح بها السلطة لنفسها الحق في إدارة الحياة: طريقة الحياة ورفع مستوى الحياة، إطالة الأعمار والقضاء على الأوبئة والأمراض وتنظيم النسل، بدأت هذه العمليات بحسب فوكو في نهاية القرن الثامن عشر بهدف تفعيل الجسد الاقتصادي والسياسي لمجتمع مقبل على الانفجار الديمغرافي السكاني والصناعي أي أن المحافظة على صحة وحياة السكان بغرض تحويلها الى أفراد منتجة ضمن علاقات الإنتاج الرأسمالية.

السلطة الانضباطية والسلطة الحيوية وإن كانتا متفارقتين زمنيا (ظهرت السلطة الحيوية بداية من نهاية القرن الثامن عشر) إلا أنهما متمفصلتان (توجدان جنبا إلى جنب وتتراكبان بحيث تعتمد إحداهما على الأخرى)، وتعملان على مستوى الدولة وتحت الدولة عن طريق (المؤسسة الطبية والضمان الاجتماعي وصناديق الإغاثة... إلخ).

أجساد السودانيين لا سيما المهمشين منهم (عرقياً واقتصادياً) لطالما كانت موضوعات للسلطة الانضباطية بغرض تطويعها وضبطها وإخضاعها بل وحتى سلبها حق الحياة، أجسادنا موضوعات للبراميل المتفجرة وأدوات التعذيب في المعتقلات، وللتجويع المتعمد في مناطق الحروب التي تشنها الدولة على السكان.

هل من سلطة حيوية على أجساد السودانيين أي اهتمام السلطة بالإنسان بوصفه كائنا حيا، والاهتمام بصحة الأجساد وتحسين حياتها عبر تبنّي، على الأقل، الرعاية الصحية الأولية وهي من مفاهيم السياسة الصحية التي ظهرت بعد مؤتمر ألماآتا في الاتحاد السوفيتي (السابق) وتعرّف بـ"الخدمات الصحية الشاملة والأساسية الميسرة لجميع الأفراد والأسر في جميع المجتمعات، والمعتمدة على وسائل وتقنيات صالحة عملياً، وسليمة علمياً، ومقبولة اجتماعياً، وبمشاركة تامة من المجتمع وأفراده، وبتكاليف يمكن للمجتمع والدول توفيرها في كل مرحلة من مراحل التطور". يبدو السؤال ضرباً من العبث، فزيارة سريعة إلى أقرب مشفى حكومي أو إلى أقرب إحصائية لمؤشرات الصحة في السودان كافية لنفي أي أدنى اهتمام من الدولة بصحة الأجساد.

أجساد الأغلبية من السكان بالنسبة للدولة في السودان هي "حياة عارية" بتعبير فيلسوف أوروبي آخر هو جورجيو أجامبين أي حياة هي محض وجود بيولوجي فقط منزوع الحقوق بما فيها الحق في الصحة بطبيعة الحال.

عنصرية الدولة السودانية عبر سلطتها الانضباطية التي تجاوزت العقاب الجسدي (التعذيب) والإماتة الفردية في بيوت الأشباح في بدايات الإنقاذ والتي لم تنته بعد، وأخذت منحى أكثر تطرفاً وتنظيماً متمثل في الحروب الطويلة والكارثية والممنهجة التي نجم عنها ملايين القتلى في جنوب السودان القديم/ الجديد، ودارفور، وذلك باستبعاد قطاعات كاملة من السكان لأنهم غير عرب أو غير مسلمين "حرب الجنوب" وبالتالي يحقّ للمجموعات الأخرى الأكثر تميزاً في النظرة الهرمية التي تتبناها الدولة للسكان، يحقّ لهم أن يحيوا ويعيشوا بمواردهم البترولية أو أن يخضعوا لشروط هذه السلطة ويرتضوا هذا الترتيب الهرمي العنصري.


وكذلك إخضاع وإبادة أسفل الهرم السكاني بدارفور لأن أي مطالبة بالحق في الحياة الكريمة من قبل هؤلاء تزعزع استقرار المجموعات الأخرى وتضر بالاقتصاد الذي يستفيد من ازدهاره مجموعات صغيرة أرقى وأفضل في الهرم السكاني للدولة، وهنا يأتي اقتباس فوكو عن طريقة تفكير هذه الدولة: "إذا أردت أن تحيا يجب علي الأخر أن يموت" إذ إن موت الآخر وموت العرق الدنيء أو الأسوأ هو ما يجعل الحياة بوجه عام أكثر طهارة ونقاء.ِ

تتعامل الدولة السودانية مع المواطن كعبء يجب التخلّص منه، خصوصاً إن توقّف عن الإنتاج، يتضح ذلك بصورة متسارعة في الهروب المتراكم من مسوؤلياتها الخدمية تجاه المواطنين، مع إطلاق يد القطاع الخاص لتلهب ظهره، القطاع الخاص الذي يديره أفرادهم أو حلفاؤهم.

في عام 2013 تم تسريب فيديو يظهر فيه رئيس الجمهورية عمر البشير ووزير الزراعة آنذاك المتعافي ووزير الإعلام أحمد بلال لدى زيارتهم لمركز السلام للقلب الذي يعالج المرضى مجاناً، حيث طلبت إدارة المركز أن يتم دعمهم بعد أن تقلّصت المساعدات التي تأتيهم من الخارج، فاقترح عليهم السيد الرئيس أن يتم تحويل جزء من هذا المركز المجاني إلى استثماري وتحصيل أموال من المرضى مقابل ذلك، الشيء الذي قوبل بالرفض منهم كونه يتناقض مع رسالة المركز الرامية للعلاج المجاني فيه للسودانيين وحتى من دول الجوار القريبة، وقد حاولت الحكومة السودانية مراراً وتكراراً أن تستولي على المستشفى أو المشاركة في إدارته لتغيير توجهه، لكن كل محاولاتها باءت بالفشل.

آخر الإحصائيات تشير إلى أن هنالك أكثر من 160 ألف مصاب بالسرطان، ويتم تسجيل 12 ألف إصابة جديدة كل عام، ويشكل الأطفال 8 في المئة من مرضى السرطان، كما أن 50 في المئة من المرضى المصابين بسرطان الدم يحتاجون علاجا فوريا، وعلى النحو الجغرافي، نصف الإصابات بالسرطان تتركز في ولاية الجزيرة، وتصل في الخرطوم إلى نحو 12 في المئة، وفي القضارف إلى نحو 10 في المئة، من معدل الإصابة بأمراض مختلفة.

من تعتقدون أن يشكلوا النصيب الأكبر من هؤلاء، سوى النازحين من حروب الإنقاذ الطويلة، وضحايا التنمية غير المتوازنة، في ظل تأخر اكتشاف المرض لقلة الوعي الصحي، حيث توجد سبعة مراكز للعلاج الكيميائي، ومركزان فقط للأشعة، كما أن قلة اختصاص الأطباء زادت في تأخير التشخيص والعلاج للمرضى.

يتساءل فوكو -إشارة واضحة لكارثتي القرن العشرين الفاشية والنازية- كيف يمكن لسلطة أخذت علي عاتقها مسؤولية تحسين الحياة وإطالة الأعمار واستبعاد الحوادث كيف لسلطة هذه أن تقتل؟ "أن تعرض للموت ليس فقط أعداءها ولكن مواطنيها"؟ الجواب بالنسبة لفوكو هو "عنصرية الدولة" بمعنى تثبيت العنصرية بوصفها آلية أساسية للسلطة حيث صار عمل الدولة الحديثة وذلك (في حدود معينة وشروط محددة لا يمر إلا عبر العنصرية) لأن العنصرية وببساطة قائمة على وضع تمايز وتراتب بين الأعراق الجيدة (وبالتالي التي تستحق أن تحيا وتمارس عليها السلطة الحيوية) والأعراق "السيئة والدنيئة" (وبالتالي لا تستحق أن تحيا وتمارس عليها سلطة الإماتة).

إذاً العنصرية هي الشرط الذي بواسطته تستطيع ممارسة القتل. عنصرية الدولة السودانية التي قد تتخطّى عرقا معيّنا إلى الطبقات بأعراقها وإثنياتها المختلفة عن طريق حرمانها من الخدمات الصحية الجيدة، هذه الطبقة الفقيرة تنظر إليها الدولة كوافدين يتمتعون بخدمات ليست حقّاً لهم، ولا يشكلون سوى تهديد أمني واقتصادي محتمل، وحقّ عليهم التضييق في حرمانهم العلاج من الأمراض القاتلة، والتضييق عليهم كذلك في وسائل كسب العيش كما شاهدنا في القرارات الآخيرة القاضية بحرمان ما يزيد عن 13 ألفا من "ستات الشاي" مزاولة عملهن ببيع الشاي على الشريط المتاخم لشارع النيل بالخرطوم والطرقات الرئيسية، وهي مهنة قوامها الأكبر من ضحايا الحروب والفئات الأكثر فقراً بالعاصمة.

تصريح أبو قردة ورد البشير على مسؤولي مركز السلام للقلب يمثل رؤية دولته للسياسات الصحية، ويلخص فلسفة دولته في مسألة الصحة، هنالك نوعان من السكان إذاً (من يملكون) "المقتدرين" وهؤلاء لهم الحق في التمتع بالسلطة الحيوية وتكنولوجيات الإحياء، بإمكانهم الحصول على أفضل الخدمات الصحية في المستشفيات الخاصة أو خارج السودان إن هم أرادوا، بإمكانهم اختيار جنس المولود الذي يرغبون، باستخدام أحدث تقانات الخصوبة، بإمكانهم الحصول على شكل الجسد الذي يرغبونه بزيارة عيادات التجميل والصالات الرياضية والتغذية الجيدة... إلخ.

أما من لا يملكون فهؤلاء تنظر إليهم الدولة (السلطة) باعتبارهم عبئا وفائضاً عن الحاجة يمكن الاستغناء عنه بسهولة سواء برفع اليد عن الخدمات الصحية المقدمة إليهم أو طردهم أو إبادتهم جماعيا، هؤلاء موضوعات للسلطة الانضباطية وسلطة الإماتة.
81BFF91E-2169-4911-9B07-BF803EB28D69
خالد يوسف

كاتب سوداني..يقول: في بلد أصبح الطموح الأقصى فيه هو البقاء على قيد الحياة حيث لا أمل في مستقبل ولا تطلعات سياسية أو ثقافية كل مواطن فيه أرنب لا يحسن الركض عليه أن يوفق بين نجاته من السلطة الجائعة المفترسة، وبين ما يسد رمقه كل يوم بما يعينه على النجاة من المفترس.